سياسة خارجية أميركية متخبطة
بقلم: د. سنية الحسيني
كشفت تطورات الحرب الروسية الأوكرانية عن تغيرات مهمة في التفاعلات السياسية للنظام الدولي اليوم، وصفها أنتوني بلينكن وزير الخارجية الأميركي في خطاب له الأسبوع الماضي بأنها «مشهد دولي جديد يعكس نهاية لنظام ما بعد الحرب الباردة»، أي نهاية للنظام الأحادي القطبية الذي تشكل بعد تلك الحرب. ويفسر ذلك الإقرار الأميركي الرسمي بذلك التحول، سياسة الولايات المتحدة الخارجية اليوم، والتي تكشفها تصريحات وأفعال الإدارة الأميركية الحالية، والتي تجاوزت فيها الأهداف الإستراتيجية الخارجية المعلنة للولايات المتحدة لحقبة ما قبل الحرب الروسية الأوكرانية، وعلى رأسها مواجهة التمدد الصيني.
وتعد المشكلة الكبرى، التي تواجه صانع السياسة الخارجية الأميركية اليوم، تعدد الأهداف الإستراتيجية الخارجية الأميركية، والتراجع عن مواقف وسياسات سابقة، وظهور أهداف مهمة جديدة، بالإضافة إلى الهدف الإستراتيجي الأساس، فهل ستنجح الولايات المتحدة في تحقيق هذا الكم الكبير من الأهداف، في ظل تغير النظام الدولي، بكل ما يحمله ذلك من معطيات دولية جديدة؟
وضعت أميركا خلال السنوات الأخيرة الماضية، بدءاً من عهد الرئيس الأسبق باراك أوباما، هدفاً إستراتيجياً محدداً يتمثل في مواجهة قوة الصين الصاعدة، وتطويقها في آسيا، والتي وصفت في الوثائق الأميركية بـ»الالتفاف نحو آسيا». إن ذلك الالتفاف تطلب من الولايات المتحدة، في ظل ضرورة زيادة تواجد قواتها وتحالفاتها في آسيا، الانسحاب التدريجي من مناطق أخرى من العالم، خصوصاً من منطقة الشرق الأوسط، التي كرست لها الولايات المتحدة اهتماماً كبيراً، سواء خلال فترة الحرب الباردة أو بعدها. وبادرت الولايات المتحدة بالفعل، وفي إطار سياسة معلنة، للانسحاب من الشرق الأوسط، فعقدت أو سعت لعقد صفقة نووية مع إيران، سواء في عهد أوباما أو بايدن، وقامت بالانسحاب من أفغانستان وقلصت وجود قواتها في العراق وسورية، وسعت لتطبيع العلاقات بين إسرائيل والدول العربية، بهدف خلق التكامل الأمني في المنطقة، والذي بدأ منذ عهد ترامب واستمر بقوة كهدف إستراتيجي في عهد الإدارة الحالية.
أجبرت الحرب الروسية الأوكرانية الولايات المتحدة على وضع أهداف إستراتيجية جديدة، إذ تعد هزيمة روسيا اليوم في الحرب من بين أهم أهدافها، في ظل عدم تراجع أهمية تطويق الصعود الصيني العالمي المتواصل، الذي يأتي على حساب المكانة والدور الأميركي العالمي. وكشف الهدفان السابقان للولايات المتحدة عن أهمية منطقة الشرق الأوسط بشكل خاص، والتي تسعى روسيا والصين خصوصاً ودول قطبية أخرى عموماً لنسج علاقات إستراتيجية خاصة ومميزة مع دولها. إن تلك التطورات فرضت على الولايات المتحدة التراجع عن قرارها السابق بالالتفاف بعيداً عن الشرق الأوسط، فأعادت أميركا وضع أهدافها الإستراتيجية ورسم سياساتها الخارجية بما يتناسب مع التطورات الجديدة، خصوصاً في هذه المنطقة.
في خطابه الأسبوع الماضي، ركّز بلينكن على محاور سياسة بلاده الخارجية، كاشفاً عن تراجع خطير في المبادئ الأيديولوجية الليبرالية التي تعد الولايات المتحدة الرائد والمروج لها على مستوى العالم. إن ذلك يذكرنا بتراجع الاتحاد السوفياتي عن المبادئ الشيوعية في نهاية عهد الحرب الباردة وسقوطه. أبقى بلينكن في ذلك الخطاب على الهدف الرئيس لبلاده باحتواء الصعود الصيني والتركيز على آسيا، إلا أنه تراجع عن فكرة «الالتفاف» عن الشرق الأوسط. فقد أكد بلينكن على أهمية هذه المنطقة، وضرورة الانخراط الأميركي الدبلوماسي والأمني فيها، وذلك بهدف «تعزيز التكامل الإقليمي بقيادة الولايات المتحدة». ومن أبرز مفارقات الخطاب في إطار الهدف السابق، تأكيد بلينكن على نية بلاده العمل مع أي دولة في المنطقة، في إيمائية بالتغاضي عن المعايير الديمقراطية، التي تشترطها الولايات المتحدة في تعاملاتها وشراكاتها. ورغم أن الولايات المتحدة تتعامل بمعايير مزدوجة ضمن ذلك المبدأ، وبشكل فاضح، خصوصاً مع إسرائيل، إلا أن التصريح رسمياً بالتخلي عن ذلك المبدأ الأصيل في الفكر الأميركي والأيديولوجيا الليبرالية يحمل في جعبته الكثير.
طرح الوزير الأميركي أيضاً في ذلك الخطاب مشروع مستقبلي بتدشين ممر بين الهند وأوروبا عبر الشرق الأوسط، والذي إن تحقق، ينافس مشروع طريق الحرير الصيني، الذي تستثمر فيه الصين مالياً ودبلوماسياً منذ سنوات، ويعزز الوجود الاقتصادي الأميركي في منطقة الشرق الأوسط، كمنافس للصين. ويعد ذلك المشروع الذي تطرحه الولايات المتحدة ضربة أخرى لمبادئ الليبرالية التي تتبناها الولايات المتحدة كأيديولوجيا، والتي ترى أن الاقتصاد والتكامل التجاري والمالي طريق مهم لتحقيق السلام والاستقرار في العالم. فالولايات المتحدة تعلن من خلال هذا المشروع الحرب الاقتصادية على الصين، والذي يبتعد تماماً عن فكرة التكامل والتعاون الاقتصادي العالمي. وهو ذلك المبدأ الذي خضعت له وانخرطت في إطاره دول العالم أجمع، بما فيها روسيا والصين، في ظل سيادة العولمة الأميركية، خصوصاً بعد انتهاء الحرب الباردة، وتسيّد أميركا كقطب منفرد على العالم.
تتعدد أهداف السياسة الخارجية الأميركية في عالم ما بعد عالم القطبية الأحادية، فبالإضافة إلى إعادة الالتفاف نحو الشرق الأوسط، باتت الولايات المتحدة تعطي اهتماماً لقارة أفريقيا، بعد أن أهملتها لسنوات طوال، خصوصاً في أعقاب تصاعد تمرد دول القارة السمراء على النفوذ الغربي، لصالح تحالفات مع الصين وروسيا وأقطاب أخرى. كما تواجه الولايات المتحدة منزلق الحرب الروسية الأوكرانية، التي آثرت على تأجيجها لكسر شوكة روسيا وإزاحتها من عالم الأقطاب المتعددة، المهدد لتفردها القطبي. ورغم عدم دفع الولايات المتحدة لثمن مباشر لهذه الحرب الدموية، كالثمن الذي تدفعه أوكرانيا وروسيا، ودول الاتحاد الأوروبي حلفاء أميركا المقربون، إلا أن الولايات المتحدة تدفع ثمناً أيضاً. تضع الولايات المتحدة هدفاً رئيساً في سياستها الخارجية لدعم أوكرانيا في هذه الحرب. فعلى مدار عام كامل، خصصت الولايات المتحدة ما يقرب من ١١٥ مليار دولار من التمويل الطارئ لدعم أوكرانيا منذ ٢٤ شباط ٢٠٢٢، ويعادل ما خصصته الولايات المتحدة لأوكرانيا خلال ذلك العام حوالى ٢% من الميزانية المالية الكلية للولايات المتحدة، الأمر الذي اضطر الكونغرس لمناقشة مدى جدوى ذلك الدعم. وتتوقع الولايات المتحدة استمرار تقديم تمويل طارئ لأوكرانيا والدول المجاورة نتيجة هذه الحرب حتى العام ٢٠٣٢. يأتي ذلك في وقت تجاوز فيه الدَّين القومي الأميركي الـ ٣٣ تريليون دولار لأول مرة في التاريخ.
لا تواجه الولايات المتحدة مشكلة في تعدد الأهداف وتشعبها وانتشارها فقط، والذي يعقد من إمكانية متابعتها جميعاً في نفس الوقت وبلوغها في النهاية، بل تواجه معضلة مدى إمكانية السيطرة على حلفائها وتوجيه سياساتهم وفق مصالحها هي، كما كان في الماضي. فعالم اليوم يختلف عن عالم الأمس، وتوجيه سياسات تركيا ومصر والسعودية، على سبيل المثال في منطقة الشرق الأوسط، لم يعد بالإمكان التعويل عليه اليوم، في ظل عالم باتت فيه دوله تعي مصالحها وتعمل على تحقيقها. وتضع السعودية شروطاً تعجيزية على الولايات المتحدة لتطبيع علاقاتها مع إسرائيل، خصوصاً ذلك المتعلق بابرام معاهدة دفاعية، تشبه تلك الموقعة مع دول حلف الناتو، والتي تحتاج للاقرار من قبل ثلثي مجلس الشيوخ، وتحرج أمريكا مع حلفاء مقربين لها، ناهيك عن الأعباء الاسترتيجية والعسكرية والأمنية والمالية المترتبة عليها. كما تعول الولايات المتحدة على الهند لتحدي الصين في آسيا، خصوصاً في ظل مكانتها الجيوسياسية، فدعمتها لتترأس مجموعة العشرين، ووضعتها في صدارة مشروعها المنافس لممر الحرير الصيني، لم تنجح الولايات المتحدة في إقناعها بتبني موقف منحاز للغرب في الحرب الروسية الأوكرانية. إنه لمن الصعب على مثل تلك الدول، الحليفة للولايات المتحدة، تجاهل تجربتها مع الولايات المتحدة طوال سنوات ماضية، تغاضت فيها الولايات المتحدة عن مصالح تلك الدول لصالح أهدافها. تحمل الأيام القادمة في جعبتها الكثير، فإلى أي مدى ستقوى الولايات المتحدة على تحقيق أهداف سياستها الخارجية، في ظل التغيرات السياسية القادمة في عالم متغير؟