التراجع الغربي عن تمويل الحرب.. هل يعكس قرب نهايتها؟
د. سنية الحسيني
في تطورات الحرب الروسية الأوكرانية، وعدم القدرة على حسم المعركة ميدانياً لصالح أحد الطرفين، واستمرار التنبؤات باستمرارها دون حسم، يبدو أن تعويل روسيا على تسرب التململ واليأس من قبل الدول الغربية، التي تقود الحرب فعلياً، بدأ يلوح في الأفق. وتقدم التفاعلات الصاخبة التي واجهت الكونغرس الأميركي لإقرار ميزانية البلاد في الأيام الأخيرة الماضية دليلاً عملياً على تعقد مستقبل التمويل الغربي الضامن لاستمرار هذه الحرب، في ظل اعتبار الولايات المتحدة المحتضن السياسي الرئيس لهذه الحرب والداعم المالي الأول لها. وتعد واشنطن أكبر داعم دولي لأوكرانيا منذ بداية الحرب، فخصّصت أكثر من ٦٠ مليار دولار من الدعم لأوكرانيا، معظمها مساعدات عسكرية، بينما خصص الاتحاد الأوروبي لكييف، نحو حوالي ٤٠ مليار دولار. ويتصاعد الانشقاق سواء داخل الولايات المتحدة أو داخل كتلة التحالف الأوروبي حول جدوى استمرار تمويل أوكرانيا في هذه الحرب، مع عدم إمكانية حسم المعركة، وطول أمدها دون أفق لنتائج حاسمة.
وشهدت أروقة السياسة الأميركية فترة عاصفة، في ظل مساعي إقرار الموازنة الجديدة، في ظل الانقسام الحاد بين الديمقراطيين والجمهوريين بشأنها، كادت تدخل البلاد في اغلاق حكومي، لم تدخله منذ العام ٢٠١٩، حيث تم التوصل إلى تسوية قبل ساعتين فقط من موعد بدء الإغلاق الحكومي، منتصف ليلة السبت الماضي. كان من شأن حدوث الإغلاق أن تتوقف جميع الخدمات الحكومية باستثناء الحيوية منها، ويلزم ملايين الموظفين الفدراليين والعسكريين منازلهم. وتبنى مجلسا النواب والشيوخ إجراء طارئاً ومؤقتاً يسمح بمواصلة تمويل الإدارة الفيدرالية لمدة ٤٥ يوماً. جاء ذلك الحل كمقترح من قبل الجمهوريين وأيده الديمقراطيون بغالبية واسعة، بعد أن نص ذلك الاجراء على تجميد المساعدات لأوكرانيا، فأسقطت من المخصصات ٢٤ مليار دولار، أراد بايدن إدراجها. وفي اطار تلك التطورات صوت المجلس في إجراء تاريخي، على تنحية رئيسه الجمهوري كيفين مكارثي، ما ترك المجلس في فراغ تشريعي لحين التوافق على آخر جديد. وأثار مكارثي حفيظة الجناح المتشدد في حزبه، عندما تعاون مع الديمقراطيين لتمرير اتفاق مؤقت بشأن الموازنة لتجنّب الإغلاق الحكومي، وحرمهم من فرصة فرض تحقق تقليص أكبر في المخصصات المالية للبلاد في ظل أزمتها الاقتصادية.
تعتبر تلك التطورات في مجلس النواب مؤشراً على أن الدعم لأوكرانيا أصبح قضية جدلية بامتياز ومرشحة للتصعيد أكثر في الأسابيع والأشهر المقبلة. وهناك تيار جمهوري قوي ومؤثر يرفض تقديم الدعم لأوكرانيا، في ظل التضخم غير المسبوق الذي يعاني منه الأميركيون وحالة الاقتصاد الأميركي المتراجعة. من المرجح أن يواجه بايدن وإدارته صعوبات أكثر في تمرير حزم الدعم التي يريدون إرسالها لأوكرانيا عبر الكونغرس المنقسم بشدة بين الحزبين، والذي يتمتع فيه الجمهوريون بأغلبية ضئيلة. وكشفت صحيفة «بوليتيكو» الأميركية، يوم الخميس الماضي، عن وجود خلافات كبيرة بين وزارتي الخارجية والدفاع في الولايات المتحدة حول الاستمرار في دعم النظام الأوكراني بالأسلحة.
وبعد ١٩ شهراً من استمرار القتال، تُظهر استطلاعات الرأي المختلفة أن عدداً كبيراً من الأميركيين يشكّكون بشكل متزايد في جدوى استمرار تقديم مساعدات إضافية لكييف. وانخفض تأييد الشارع الأميركي لدعم اوكرانيا مالياً خلال ثمانية شهور فقط، ما بين شهر أيار من العام الماضي ومطلع العام الجاري، من ٦٠ في المائة الى ٤٨ في المائة، فانخفض دعم الديمقراطيين من ٧١ في المائة الى ٦٣ في المائة، بينما تراوح انخفاض الدعم من بين الجمهوريين من ٥٣ في المائة إلى ٣٩ في المائة، مع توقع أن ذلك الانخفاض استمر، وبنفس المستوى تقريباً خلال الاشهر التالية، خصوصاً في ظل استمرار اضطراب الوضع الاقتصادي الأميركي. حتى وإن نجح التمرير القادم للموازنة الأميركية في مجلس النواب، بإدراج مساعدات لأوكرانيا، سواء من خلال تشريع خاص أو كجزء من مشروع تكميلي، الا أن هناك تهديداً حقيقياً لفرص تدفق المساعدات الأميركية لأوكرانيا بشكل عام، سواء على المستوى الآني في ظل الخلاف بين الجمهوريين والديمقراطيين في مجلس النواب حول ذلك الملف، أو في ظل نتائج الانتخابات الرئاسية نهاية العام القادم.
وفي سياق التخفيف من ردود أفعال حلفائه الغربيين على تطورات إقرار الموازنة في الكونجرس، تواصل بايدن يوم الثلاثاء الماضي معهم للتأكيد على استمرار دعم بلاده لأوكرانيا، إلا أنه أشار إلى أن المساعدات قد تنقطع في غضون أشهر ما لم يوافق الجمهوريون على تمويلها في الكونغرس. كما صرحت المتحدثة باسم البيت الأبيض يوم الاثنين الماضي، بأن واشنطن تمتلك الأموال لتلبية الاحتياجات الفورية للمساعدة العسكرية لأوكرانيا، ولكن الأموال ليست متوفرة للدعم على المدى الطويل. ويواجه بايدن في استطلاعات الرأي تهديداً حقيقياً من قبل دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية القادمة. يأتي ذلك في ظل تزايد توجه الجمهوريين الرافض لدعم أوكرانيا في الحرب، وتوجهات ترامب بالانسحاب من حلف الناتو، وتلميحاته بأنه قادر على إنهاء الحرب خلال ٢٤ ساعة.
وعلى جانب آخر لا يقل أهمية عن السابق، ورغم أن الجبهة الأوروبية لا تزال موحدة في موقفها تجاه الحرب، رغم مرور ١٩ شهراً على بدئها، ظهرت تصدعات لا يمكن تجاهلها. وتشعر أوروبا بالقلق بعد التطورات الحاصلة في واشنطن، بشأن تأجيل إقرار المساعدات لأوكرانيا في الكونغرس، خصوصاً وأن واشنطن تتفوق في تقديمها مقارنة بدول الاتحاد الأوروبي مجتمعة. كما أنه ورغم اتفاق أغلب دول الاتحاد الأوروبي على دعم أوكرانيا، فوفقاً لاستطلاع أجري في شهر حزيران الماضي، فإن ٦٣ في المئة من سكان دول الاتحاد الأوروبي يؤيدون مساعدة أوكرانيا، الا أن تلك المساعدات مرتبطة بميزانية الاتحاد الأوروبي طويلة الأجل، والتي تقر من قبل جميع دول الاتحاد الأوروبي السبع والعشرين.
ويمكن رصد تبدلات مهمة في موقف دول الاتحاد تجاه دعم أوكرانيا، تقدم مؤشراً مستقبلياً مهماً. وانتخبت سلوفاكيا رئيس وزراء ركز في حملته الانتخابية على إنهاء المساعدات لأوكرانيا، وأعلن استعداده للتعاون مع رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان لمعارضة مزيد من الدعم الأوروبي لكييف. وتعارض المجر العقوبات على موسكو، وتدفع لشراء الغاز الروسي بالروبل، وترفض تسليح كييف. ولا يتجاوز التأييد الشعبي لاستمرار الحرب في بلغاريا نسبة ٣٠%. كما أعلنت بولندا والتي كانت من أهم حلفاء كييف، الشهر الماضي، بأنها لن ترسل الأسلحة بعد الآن. وتقدمت أوكرانيا مؤخراً بشكوى ضد بولندا والمجر وسلوفاكيا بسبب حظر الحبوب الأوكرانية، حيث تخشى الدول الثلاث من التأثير السلبي على مزارعيها، في ظل استمرار الأزمات الاقتصادية.
كما أكد وزير الخارجية البريطاني جيمس كليفرلي أن الاستمرار في دعم أوكرانيا، بات أمرًا صعبًا، وتراجعت بريطانيا عن الحديث عن إرسال قوات بريطانية إلى أوكرانيا، بعد تصاعد الرفض الشعبي في البلاد لإقحام بريطانيا في الحرب. وينخفض التأييد الشعبي الفرنسي لهذه الحرب واستمرارها، كما لم يكن موقف فرنسا حاسماً في هذه الحرب، خصوصاً عندما عرض الرئيس إيمانويل ماكرون التوسط فيها، وواجه انتقاداً من قبل الرئيس فولوديمير زيلينسكي. وأدى ارتفاع أسعار الطاقة في ألمانيا والركود والمخاوف من تراجع التصنيع إلى تراجع شعبية الائتلاف الحاكم وتحسن شعبية الحزب اليميني «البديل من أجل ألمانيا»، الذي بات ثاني أقوى حزب في البلاد في آخر استطلاعات الرأي، والذي يركز على انسحاب بلاده من حلف الناتو ووقف الدعم لأوكرانيا. واعتبرت سارة فاغنكنشت عضو البرلمان الألماني اليسارية ذات الشعبية العالية، أن دعم بلادها لأوكرانيا يمثل هاوية مالية لا نهاية لها. وكانت ألمانيا عارضت إلغاء مشروع ‹نورد ستريم 2› المشترك مع روسيا لنقل الغاز، ودفعت بالروبل بدلا من اليورو مقابل الغاز الروسي، كما انتقدت تسليح أوكرانيا.
أثبتت المكاسب المتواضعة للهجوم المضاد الذي أطلقته أوكرانيا في وقت سابق من هذا الصيف، واقتراب فصل الشتاء، الذي يشهد تجميداً للعمليات العسكرية الكبرى في ساحة الحرب، أن الحرب لن تحسم قريباً. وفي ظل استمرار الأزمة الاقتصادية الحادة في العالم، تصبح تعقيدات ضمان استمرار تقديم المساعدات الغربية لكييف أكبر. كما أن توقف الدعم الغربي سيحسم نتائج القتال، خصوصاً في ظل تصريحات ذات مغزى لرئيس مجلس النواب المعزول مكارثي «إن مصالح أميركا أكثر أهمية من مساعدة أوكرانيا». وجاء تصريح لوزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، قبل أيام، حول استعداد موسكو للتفاوض أخذاً في الاعتبار التطورات التي حصلت على الأرض، وأمن البلاد المتمثل بمنع إقامة نظام معادٍ على حدود روسيا، ليعيدنا إلى المربع الأول قبل انفجار الحرب، مع حساب الضحايا والخسائر الضخمة التي تكبدها العالم، بسبب القرارات الخاطئة لقيادات أقطابه.