أحمد عبد الصبور : فريد الأطرش سعى بفنه إلى وضع بصمة فنية خاصة به في خريطة الموسيقى والغناء المصري
أحمد حمدي
إستضافت مقدمة ومعدة البرامج الإذاعية ” نارمن الطاهر ” في برنامجها ” سهرة حكاوينا ” المذاع على إذاعة الشباب والرياضة FM 108 المؤرخ والناقد الفني ” أحمد عبد الصبور ” في حلقة مميزة عن « موسيقار الأزمان » الفنان ” فريد الأطرش ” « فريد العصر والزمان » .
وقد تحدث المؤرخ والناقد الفني ” أحمد عبد الصبور ” قائلاً :
” فريد الأطرش ” ولد في 21 أبريل عام 1917 وينتمي إلى آل الأطرش ، وهم من الأمراء وإحدى العائلات العريقة في جبل العرب جنوب سوريا في المنطقة المسماة جبل الدروز نسبة لسكانها .. وقد رحل عن عالمنا في يوم 26 ديسمبر عام 1974 عن عمر ناهز الـ 57 عاماً ، بعد مسيرة حافلة من الغناء والتلحين .
شارك في 31 فيلماً سينمائياً في السينما المصرية في الفترة من 1941 حتى السنة 1974 وكان بطلها جميعاً، ربما أشهر هذه الأفلام على الإطلاق والذى جنى منها أرباحاً طائلة هو فيلم ” حبيب العمر ” لأنه مثل قصة حب حقيقية … وغنى ” فريد الأطرش ” حوالي 224 أغنية لحنها جميعا إلا أغنية واحدة هي أغنية ” من يوم ما حبك فؤادي ” كلمات وألحان ” مدحت عاصم ” .. وصدر حوالي 17 كتاباً ومؤلفاً عنه وعن فنه .
وأضاف ” أحمد عبد الصبور ” قائلاً :
وقد يدهشك أن ” فريد الأطرش ” الذي جاء إلى مصر مع شقيقته ” آمال الأطرش ” التي عرفت فيما بعد فنياً بإسم ” أسمهان ” هرباً من إضطهاد الإحتلال الفرنسي – يعني ليس مصرياً – إلا أنه الفنان الوحيد الذي كان يحمل 4 جنسيات هي : السورية واللبنانية والمصرية والسودانية، فقد كان نموذجاً لوحدة الفن العربي ومعبراً عنه في أعماله .
منذ بداية الأربعينيات سعى ” فريد الأطرش ” بفنه فقط إلى وضع بصمة فنية خاصة به في خريطة الموسيقى والغناء المصري المتخمة والمزدحمة بساكنيها من عمالقة الطرب في ذلك الوقت على مستوى الغناء والتلحين، أمثال : ” محمد عبد الوهاب ” و ” رياض السنباطي ” و ” محمد القصبجي ” و ” زكريا أحمد ” و ” محمود الشريف ” و ” أحمد صدقي ” و ” أم كلثوم ” وغيرهم ، وبعد سنوات قليلة يأتي ” عبد الحليم حافظ ” و ” كمال الطويل ” و ” محمد الموجي ” وغيرهم .. لتزداد الساحة إزدحاماً وتشتد حدة المنافسة ليجد ذلك الفتى ” لأمير الدرزي” نفسه في ” معمعة كبرى لا تخلو من بعض المواقف والتصرفات والضربات الخفية فوق وخارج حلبة المنافسة .. وهذا الوافد الجديد عليه بصفاته الشخصية المسالمة والطيبة و”الغلبانة” التي لا تعرف “مقالب الوسط الفني” أن يستمر ويتقدم في السباق بأعماله فقط ليصبح أحد أهم عمالقة الغناء والألحان في مصر والوطن العربي .
وإستطرد ” أحمد عبد الصبور ” قائلاً :
كل من يعرف ” فريد الأطرش ” وإقترب منه وصادقه يشهد على إخلاصه وحسن نواياه وحبه لمن حوله وطيبته الزائدة ، وربما هذا ما يفسر إنحياز النخبة السياسية الجديدة التي حكمت مصر منذ بداية الخمسينيات والستينيات والسبعينيات إلى ” فريد الأطرش ” وإنسجمت ذائقتها الفنية ومزاجها الغنائي مع ألحان وأغاني ” فريد الأطرش ” ، وهو ما يشير إليه عدد من المؤرخين الموسيقيين في كتاباتهم .
وربما السبب الآخر للإنحياز هو الحرب الخفية والخلافات الفنية والشخصية المسكوت عنها أحياناً والمعلنة أحياناً أخرى ضد ” فريد الأطرش ” ومن زعماء المرحلة الفنية خاصة ” عبد الحليم حافظ ” و ” أم كلثوم ” وربما هذا ما أنقذه – إلى جانب أعماله الرائعة – من أنياب فنية حادة .
من هنا نشأت صداقة قوية بين ” فريد الأطرش ” والزعيم الراحل ” جمال عبد الناصر ” والرئيس الراحل ” محمد أنور السادات ” .. فصداقته مع ناصر لخصها في النهاية منحه وسام الإستحقاق من الطبقة الأولى ، تقديراً لخدماته للموسيقى العربية ، الأمر الذي كان أجمل لحظات حياة ” فريد الأطرش ” التي وصفها بـ ” فرحة العمر ” .. وهو الوسام الذي لم يحصل عليه ” حليم ” رغم علاقته مع ” جمال عبد الناصر ” وإعتباره “فنان ثورة يوليو”..!
ولا ينسى ” فريد الأطرش ” لحظة أن رن جرس الهاتف في شقته المطلة على النيل ليجد على الطرف الآخر مكتب السيد ” صلاح الشاهد ” ، كبير الأمناء برئاسة الجمهورية ، يبلغه أن الرئيس قرر تكريمه .
ويقول ” فريد الأطرش ” بعد ذلك في حواراته : ” كانت المفاجأة أكبر من أن يتحملها قلبي فبكيت من الفرحة ” .. وتم تحديد موعد إستلام الوسام ولم يستطع ” فريد الأطرش ” أن ينام ليلة سماعه الخبر قبل أن يذهب في اليوم التالي ، فكانت فرحته وإمتنانه بلا حدود لهذا التقدير ، ولم يعبر عن هذه المشاعر أى شيء غير البكاء .
وعندما ذهب ” فريد الأطرش ” إلى القصر الجمهوري لإستلام الوسام من صلاح الشاهد تدفقت مشاعره وهو يقرأ نصه :
” من جمال عبد الناصر، رئيس الجمهورية العربية المتحدة إلى الموسيقار فريد الأطرش، تقديراً لحميد صفاتكم، وجليل خدماتكم للموسيقى، قد منحناكم وسام الإستحقاق من الطبقة الأولى ” .
أمسك ” فريد الأطرش ” بالقلم وحاول التعبير عما يدور في قلبه والمشاعر التي تعتمل في أعماقه ، ليكتب في سجل التشريفات :
” سيدى الرئيس … إن تقديركم النبيل قد جعلني أشعر بأنني قد ولدت من جديد، وأن هذا اليوم المشهود الذي نلت فيه شرف تقديركم وتقدير وطني، لهو يوم خالد في حياتي سوف أعتز وأفخر به ما بقى لي من عمر في هذه الحياة، فلكم كل شكري وإمتناني ولوطني الغالي مصر حياتي وكل قطرة في دمي، ووفقكم الله لنصرة وطننا العزيز لترتفع دائماً راية العروبة شامخة عالية.”
وبحسب ما نشرته مجلة آخر ساعة المصرية في عددها الصادر بتاريخ 18 مارس 1970 قال ” فريد الأطرش ” : ” لا أدري ما أقول في هذا الموقف المشهود في حياتي، فإنني مهما بذلت من جهد ومهما قدمت من عمل بعد ذلك لن أستطيع التعبير عن إمتناني وحبي ومشاعري تجاه الرئيس جمال عبد الناصر، الإنسان العظيم والقائد الحق، وراعي الفنون والثقافة العربية ” .
حالة الحب والتقدير و”الإنحياز” من الزعيم الراحل لموسيقار الشرق ” فريد الأطرش ” ، كانت واضحة في العلاقة بينهما، حتى أنه نصره في بعض الأحيان على العندليب الأسمر ” عبد الحليم حافظ ” – مطرب الثورة – ففي إحدى المرات تدخل ” جمال عبد الناصر ” بين ” فريد الأطرش ” و ” عبد الحليم حافظ ” ، في حسم واقعة نقل التليفزيون لحفلات شم النسيم، وأمر ” جمال عبد الناصر ” وقتها أن ينقل التليفزيون حفلة ” فريد الأطرش ” وبثها على الهواء مباشرة ، وتسجيل حفلة ” عبد الحليم ” وبثها في اليوم التالي .
وأكد ” أحمد عبد الصبور ” قائلاً :
وتفاصيل هذا الموقف كثيرة ، فقد جاء موقف الرئيس في وقت بلغ فيه الصراع التقليدي بين ” حليم ” و ” فريد ” للذروة حفل الربيع ، فقد رفض ” حليم ” أن يغني من ألحان ” فريد ” وتهرب منه .. وكان بعد أن يتفقا ويجري ” عبد الحليم ” البروفات المبدئية على عود ” فريد الأطرش ” ، ويسارع ” فريد ” بإبلاغ الصحف بإقتراب اللقاء ، لكن ” عبد الحليم ” كعادته ، فص ملح وداب ، فقد أعد له ” فريد الأطرش ” أغنية «يا واحشني رد عليه إزيك سلامات» تراجع عنها ” حليم ” في اللحظات الأخيرة ، فمنحها لمنافسه ” محرم فؤاد ” ، بعدها يقدم له «يا ويلي من حبه يا ويلي» ، يتراجع ” حليم ” فيغنيها ” فريد ” بصوته ، وهكذا تزداد حدة الصراع ، خاصة أن أنصار ” فريد الأطرش ” و ” عبد الحليم حافظ ” يصبان على نيران الخلاف المزيد من البنزين لتزداد إشتعالاً ، إلا أن حفل الربيع في ذلك العام كان هو الحلبة الرئيسية ، وبدا سؤال كبير “من الذي يعرض له الحفل في التليفزيون الرسمي ؟ ” ، والذي كان يُطلق عليه في تلك السنوات من زمن ” جمال عبد الناصر ” «التليفزيون العربي» ، فلا توجد سوى قناتين فقط ، والدولة ليست لديها إمكانيات هندسية سوى أن تنقل حفلاً واحداً ، وزير الإعلام في تلك السنوات ” عبد القادر حاتم ” أُسقط في يده ، كان ” عبد الحليم ” قبلها بنحو خمس سنوات معتاداً على إقامة حفل الربيع وتقديم أغنية جديدة لجمهوره ، ولكن ” فريد الأطرش ” عاد لمصر ، والجمهور يشعر أن الربيع هو ” فريد ” ، و ” فريد ” هو الربيع .
وجاء القرار الرئاسي بفض الإشتباك بين المطربين الكبيرين في حفل الربيع عام 1970 الذي كان مقصوراً على ” فريد ” فزاحمه فيه ” عبد الحليم ” .. وكان ” جمال عبد الناصر ” بشخصه هو من قام بفض الإشتباك في حفل زفاف إبنة ” عبد اللطيف البغدادي ” ، حيث جاء الزفاف في ذروة المعركة بين ” فريد ” و ” حليم ” قبل ليلة شم النسيم بأيام ، وكان ” عبد الحليم ” مدعواً ليغني للعروسين فإذا بـ ” جمال عبد الناصر ” يستدعيه على عجل ، فهرول ” عبد الحليم ” سعيداً ، ولكنه صُدمَ عندما سأله الرئيس : مزعل الأستاذ ” فريد ” ليه يا ” عبد الحليم ” ؟! ولم يكن أمام ” عبد الحليم ” سوى إلا أن يرد فقال : يا ريس .. فريد .. وقبل أن يكمل كـلامه قاطعه الرئيس ” جمال عبد الناصر ” : «الأستاذ فريد» .. ولم ينطق ” حليم ” ، لكن الرئيس أكمل بأنه خلاص قد أمر أن يذيع التليفزيون والبرنامج العام حفل الأستاذ ” فريد ” ، وسوف يسجل التليفزيون حفلك لإذاعته في اليوم التالي ، وعندك صوت العرب تذيعه لك على الهواء .. ووافق ” حليم ” ولم يكن في مقدوره سوى الموافقة فقط ..
ويطل ” فريد الأطرش ” في موعده من أول أبريل 1970 من فوق خشبة مسرح سينما قصر النيل وعبر شاشة التليفزيون المصري وميكروفونات إذاعتي البرنامج العام ومع الشعب، حيث ألقى كلمة حيَّا فيها الحضور شاكراً مصر شعباً وقيادة ممثلة في الزعيم ” جمال عبد الناصر ” ، وبعدها إنطلق بحماس إبن العشرين ليقدم أغنية وطنية جديدة تغنى فيها لمصر وزعيمها بكلمات ” مأمون الشناوي ” .
” ســنة وســنتين ســــنة وسـنتين .. وأنت يـا قـلبي تـقــول أنـا فـــين
وأنـا دبت وتهـت فـي أشـــواقـك .. وشفـت النيـل وعــرفت أنا فـــين
يا مصر .. يا عمري .. يا نور العين “.
وأشار ” أحمد عبد الصبور ” قائلاً :
وفي واقعة أخرى من زعيم تجاه فنان ولم تحدث بعد ذلك في علاقة الرؤساء بالفنانين، عبرت عن عمق العلاقة بين الإثنين .. فقد تعرض ” فريد الأطرش ” لوعكة صحية شديدة بعد الإنتهاء من فيلمه ” عهد الهوى ” بطولته مع ” مريم فخر الدين ” و ” إيمان ” و ” يوسف وهبي ” عام 1955 منعته بأمر الأطباء من مغادرة الفراش ، وتقرر عرض الفيلم في إحدى دور العرض بوسط القاهرة يوم 7 فبراير من العام نفسه ، وكان من المألوف أن يحضر أبطال العمل الفني حفل الإفتتاح ، ولم يقدر ” فريد ” على الحضور ، فأمسك بقلمه وكتب خطاباً مذهلاً ومدهشاً ومفاجئاً إلى “صديقه” ” جمال عبد الناصر ” جاء فيها : ” سيادة الرئيس جمال عبد الناصر .. أنا أصبت بذبحة صدرية تمنعني من الحضور لحفلة إفتتاح فيلمي عهد الهوى ، كما هي عادتي مع الليلة الأولى في حضور العرض الأول ..
لذا أرجو منك يا سيادة الرئيس أن تتكرم بحضور هذا العرض ، وأن تحيي جمهوري الذي يحبك ، وهو جميل سيظل في رقبتى طول العمر”…!!
المفاجأة الأكبر كانت في إستجابة ” جمال عبد الناصر ” لطلب ” فريد الأطرش ” .. ففي يوم حفلة العرض الأول مساء 7 فبراير 1955 يفاجأ الناس مساء بموكب سيارات تصدح بأبواقها ، في إشارة إلى حضور شخصية كبيرة ، فخرج من في السينما وإحتشد من في الشارع ليلتقوا مع من أذهلهم بحضوره ..
كان ” جمال عبد الناصر ” وبرفقته ” عبد الحكيم عامر ” ، وقد نزلا من سيارة واحدة وتوجها إلى المقصورة السينمائية ، يحييان الناس المكتظة بها الممرات والسلالم ، والهتافات تعلو ، فيسارع من أرسله ” فريد الأطرش ” إلى الهاتف ليزف البشرى للموسيقار : ” لقد حضر الريس والناس غير مصدقة ” ، فيسمع صوت ” فريد ” يعبر عن فرحة لا توصف وهو يقول : ” أنا أسمع الهتافات الآن .. أشكرك يا رب ، الله يحفظك يا ريس ” .
وأستكمل ” أحمد عبد الصبور ” قائلاً :
وفى إحدى حفلات عيد ثورة 23 يوليو المجيدة ، حرص الزعيم ” جمال عبد الناصر ” والمشير ” عبد الحكيم عامر ” على الذهاب إلى نادي ضباط القوات المسلحة ، للإستماع إلى ” فريد الأطرش ” ومعه ” سعاد محمد ” و ” فايدة كامل ” ، وهم يشدو بأغنية ” يا مرحبا يا جمال ” .
ولاقت الأغنية التي تقول بعض كلماتها : ” يا مرحبا بك يا جمال في عيد ميلاد الثائرين .. ثورة كفاح ثورة جمال تعيش لآلاف السنين ” ، إعجاب الحضور وظلوا يصفقون كثيراً لـ ” فريد الأطرش ” .
وعند رحيل ” جمال عبد الناصر ” في سبتمبر 1970 كانت الصدمة قوية بشكل خاص لـ ” فريد الأطرش ” وظهر ” فريد ” – رغم مرضه – في العديد من الصور النادرة التي تعبر عن صداقة ” فريد ” تجاه الزعيم ومدى حبه له ووفائه له ، وهو يقرأ له الفاتحة ويضع أكليلاً من الورود على قبره ، كما ظهرت صور نادرة لـ ” فريد ” وهو يقبل قبر الزعيم ، تعبيراً عن حبه الشديد وفقدانه للصداقة القوية التي جمعتهما .
ثم تسآل ” أحمد عبد الصبور ” قائلاً :
نأتي إلى ” أم كلثوم ” ومازال السؤال القديم يتردد حتى الآن : ” لماذا لم تغني أم كلثوم من ألحان فريد الأطرش .. ؟ “
في 28 يناير عام 1970 بعد 42 شهراً من الغياب عن مصر – رحل عنها عقب هزيمة 67 – ، يعود ” فريد ” إلى معشوقته وفي مطار القاهرة كانت في إستقباله بطاقة من الموسيقار ” محمد عبد الوهاب ” تقول : «ألف حمد الله على السلامة» ، ومجموعة من الأصدقاء بينهم الشاعر ” مأمون الشناوي ” ، و ” سمير صبري ” ، و ” محرم فؤاد ” ، وعازف الكمان ” أحمد الحفناوي ” ، والموسيقار ” أحمد فؤاد حسن ” ، قائد الفرقة الماسية ، و ” فؤاد الأطرش ” وزوجته .
وفي المطار صرح للصحفيين : ” أنه أعد لحنين لأم كلثوم ، قصيدتان للأخطل الصغير وهما : زهرة من دمنا ، ويقول فيها : عرس الأحرار أن تسقى العدا كئوساً حمرا وأنغاماً حزانا، وقصيدة عش أنت إنني قد مت بعدك» .
كان إعلان ” فريد ” عن لحنيه لأم كلثوم إستمراراً لأمل تمناه طوال حياته لكنه لم يتحقق ، والأقاويل حول ذلك كثيرة ، منها ما يذكره ” فريد ” في لقاء له مع الإذاعة اللبنانية ، قائلاً : « أم كلثوم كانت تشعر بالغيرة من شقيقته أسمهان ، وأنه رغم رحيل الأخيرة عام 1944 إلا أنها لم تنسَ أبداً أنه شقيق غريمتها الأولى وأول مطربة تهدد عرشها الغنائي » .
غير أن الناقد ” طارق الشناوي ” ، يذكر سبباً مختلفاً حيث سأل عمه الشاعر ” مأمون الشناوي ” : لماذا لم تغن أم كلثوم لفريد ، ولماذا لم تحاول إقناعها بذلك ؟ فأجاب : « حاولت ولكن السبب الحقيقي الذي لم تستطع أن تعلنه مباشرة أم كلثوم لفريد هو ، أنها لم تكن تحب المذاق الموسيقي الذي تجده يشكل طابعاً مميزاً لكل ألحانه » .
لكن ” بليغ حمدي ” – حسب ما نشره الكاتب الصحفي ” رشاد كامل ” في روز اليوسف في 17 أغسطس منذ عامين – قدم تفسيراً للخصام الفني بين «ثومة» و «فريد» في مقال رائع كتبه بعد فترة من رحيل «فريد» ، بعنوان «دفاع عن الضياع الحضاري” قال فيه : « أن نجاح فريد الأطرش كان يكمن بالدرجة الأولى في أنه جعل الجمهور منذ لحظته الأولى يحس تماماً بوجوده وبتأثيره في الغناء العربي والموسيقى الشرقية ، وبعد ذلك بمساهمته فنياً في تشكيل ذوق المستمع العربي لفترة زمنية طويلة » .
و « إن فناناً يمتلك موهبة فريد الأطرش وقدرته وتفوقه وإحساسه كان يستطيع أن يعطي المكتبة العربية أضعاف أضعاف ما أعطاه ، كان يستطيع أن يفعل ذلك في ألحانه وأغانيه وحتى في أفلامه ، أن من يرى ويسمع إسكتشاته الموسيقية والغنائية الجميلة في أفلامه السينمائية يحس على الفور أن بذرة النجاح الضخم في المسرح الغنائي كانت موجودة في فن فريد الأطرش ، أن التفسيرات لذلك كثيرة ، ولكنني شخصياً مقتنع بتفسيرين أو بسببين ، السبب الأول : هو أن إقبال ” فريد ” على الحياة وحبه لها أستهلك جزءاً كبيراً من وقته ، بحيث إنه كان مشغولاً أساساً بيومه ، وليس بالتفكير في مستقبله » .
والسبب الثاني – كما جاء في المقال – كان هو طبيعة شخصية ” فريد ” نفسه ، أن ” فريد ” كان معتزاً للغاية بنفسه ، وعنيد إلى آخر مدى ، حتى فيما لا يخدم فنه هو .. أن هذا هو السبب في أن ” أم كلثوم ” لم تغن من ألحانه ، أن ” فريد ” لم يعرف كيف يتعامل مع سيدة الغناء العربي ” أم كلثوم ” ، كانت له طريقته في التعامل ، وهي طريقة كانت – فضلاً عن إقتناعه بها – جزءاً من شخصيته ، هذه الطريقة هي التي جعلته يرى مثلاً أن فناناً كبيراً وناجحاً وشعبياً مثله ، لا بد أن يكون له حق إختيار الكلمات التي يلحنها لكي تغنيها ” أم كلثوم ” .
و ” أم كلثوم ” من جانبها كانت ترى أن من حق فنانة في مكانتها أن تختار الكلمات التي تنفعل بها والتي تعطيها لملحن ليلحنها ، ولهذا السبب لم يتم هذا اللقاء الفني الذي كان منتظراً وممكناً ، لقد إختار ” فريد ” قصيدة الأخطل الصغير «وردة من دمنا» ليلحنها ويعرضها على ” أم كلثوم ” لكي تغنيها ، أن ” أم كلثوم ” لم تغنها ليس إعتراضاً على القصيدة ذاتها ولكن لسبب آخر حددته هي بكلماتها : «ما دام فريد عاوز يلحن لي إذن يلحن لي أغنية حفلة ، أغنية تصلح لما أؤديه على المسرح في حفلاتي ، ولكن ” فريد ” رفض ، إلا إذا غنت له ” أم كلثوم ” أولاً أغنية «وردة من دمنا» ، وإعتبر هذا التصرف من أم كلثوم هو – أولاً – إهانة له ، أو تقليلاً من شأنه وهو أمر لم يكن صحيحاً بالطبع ، وهو ثانياً تعامل معها بعناد هو في الحقيقة جزء طبيعي – غير متعمد – من شخصيته ، وهكذا خسرنا لقاءً فنياً كان سيصبح مثمراً جداً وناجحاً للغاية ، ولكن تلك كانت هي طبيعة ” فريد الأطرش ” .