منوعات

أناقة الشرق… سحر يضيء عتمة الغرب”: كتاب يكشف تأثير الأزياء الإسلامية على أوروبا في العصور الوسطى

 

كتب عزت اشرف 

في رحلة استثنائية عبر خيوط التاريخ وألوان الحضارات، يأخذنا كتاب “تاريخ الأزياء في العصور الإسلامية وأثرها في الأزياء في أوروبا في عصورها الوسطى” للدكتورة هبة الجويرد بكلية الاقتصاد المنزلي جامعة حلوان في استكشاف معمق يكشف عن تأثير بالغ الأهمية، ظلّ طويلاً في طي النسيان أو مهمشًا في الروايات التاريخية السائدة. هذا العمل الفريد يسلط الضوء بجرأة على كيف أن أناقة الشرق الإسلامي، في أزهى عصوره، قد أضاءت عتمة العصور الوسطى الأوروبية، تاركة بصمات لا تُمحى على أزيائها وطرق ارتدائها.

تستهل المؤلفة كتابها بالإشارة إلى أن الأزياء، عبر مختلف الحقب التاريخية وخاصة في العالم الإسلامي، لم تكن مجرد أغطية للجسد، بل مرآة عاكسة للتأثيرات السياسية المتمثلة في طبيعة الحكم وميول الحكام. كما تجسدت فيها آثار دخول عناصر أجنبية، كالفرس والترك، الذين تقلدوا مناصب رفيعة وأثروا بشكل كبير في تصنيف طبقات المجتمع العربي وأنماط ملابسه. فبعد أن كانت الأردية الملتحفة هي السائدة، أدخل هؤلاء “المقطعات” أو الأزياء المخيطة، ليحدثوا تحولًا جذريًا في المشهد البصري للمجتمع.

لكنّ الكتاب يمضي أبعد من ذلك، ليتبنى منحى جديدًا وشائقًا في تسليط الضوء على الأثر العميق الذي أحدثته الأزياء المشرقية في العالم الإسلامي خلال عصوره الذهبية، على أزياء الغرب الذي وُصف بتلك الحقبة بـ “عصور الظلمة”. وتستعرض المؤلفة كيف أن الأوروبيين لم يقتصروا على استيراد المنتجات الشرقية، بل تعدوا ذلك إلى تعلم حتى طرق اللباس من المسلمين، وهو ما يذكرنا بالشاعر الأندلسي الفذ زرياب، الموسيقي عذب الصوت القادم من بغداد، عاصمة الخلافة العباسية، الذي أحدث ثورة في الأناقة والموضة في الأندلس.

كيف لحضارة أضاءت العالم بتعاليمها السامية ومسلكها الحضاري في شتى مناحي الحياة، من سياسة واقتصاد وفنون راقية تجلت في العمارة وزخرفتها البديعة الشاهدة على تقدم غير مسبوق، أن تمتد في ربوع أوروبا لثمانية قرون، ويظل أثرها حيًا بعد ذلك، ولا يكون لها تأثير في مجال حيوي كالأزياء؟ هذا ما تراه المؤلفة مستحيلاً بالدليل العقلي، وهو ما دفعها إلى البحث المضني عن دلائل هذا التأثير في مجال تخصصها، عبر معابر الحضارة الإسلامية، والمخطوطات التاريخية، والآثار التي خلفتها الحروب الصليبية، وكتابات الرحالة في العصر الذهبي للإسلام، تلك الفترة الممتدة من منتصف القرن الثامن إلى القرن الخامس عشر الميلاديين، والتي شهدت تفوقًا علميًا وثقافيًا إسلاميًا باهرًا، رغم محاولات الغرب المتعمدة لطمس هذه الحقائق.

إن هذا الكتاب، كما تؤكد المؤلفة، ينبع من فكرتها وبحثها العميق للوصول إلى تحليل مُفصل يُبين هذا الأثر الحضاري. وتأمل أن يكون هذا العمل إضافة قيمة وعلمًا نافعًا في مجال دراسة الأزياء في التاريخ الإسلامي، تلك الأزياء التي شكلت جزءًا لا يتجزأ من الحضارة الإنسانية.

وتنتقل بنا المؤلفة إلى استعراض مظاهر الاهتمام بالأزياء في عصور الازدهار الإسلامي، عندما تدفقت الغنائم والأموال على خزانة الدولة، مما أثار شغف الخلفاء والسلاطين بحياة الترف بكل مظاهرها، وكانت الأزياء الفاخرة المترفة في مقدمة هذه المظاهر. فاهتموا بها وبكل ملحقاتها من نسيج وتطريز وزخرفة أيما اهتمام، بل وأبدعوا فيها كل جديد ومبتكر، ليصلوا إلى مستويات غير مسبوقة في مجال النسيج والأزياء والموضة، خاصة في العصور الوسطى الإسلامية، عصر العباسيين والفاطميين والمماليك، ثم العثمانيين من بعدهم. وقد برزت مراكز صناعية متخصصة في كل أنحاء الدولة الإسلامية، وأنشئت المصانع التي عُرفت بـ “دور الطراز”، وتنوعت الأزياء تبعًا لتنوع الحضارة وتعقد المجتمع وتقدم الفنون، وخاصة فنون النسج وصناعة الملابس. وأقبل الخلفاء والسلاطين وحاشيتهم والأعيان على اقتناء المنسوجات والثياب بإسراف، وشجعوا النساجين على التنافس في إجادة الصناعة وابتكار أشكال جديدة من الأزياء.

وتؤكد المؤلفة أن اللباس العربي في فترات الازدهار الإسلامي يُعد جانبًا حيويًا من جوانب الحضارة العربية الإسلامية، لا يقل أهمية عن التاريخ ذاته.

وتشير إلى بعد آخر بالغ الأهمية، وهو التأثير المتبادل بين الأزياء في مختلف الدول الإسلامية التي حكمت تحت مظلة الخلافة العباسية، وحتى الفاطمية في بعض المناطق. فالأزياء السلجوقية، على سبيل المثال، تقدم لنا رؤية عميقة للأزياء في الفترات العباسية والأيوبية والمملوكية. فامتزاج الإيرانيين والعرب والترك في الدولة العباسية، وما يحمله كل عنصر من حضارة خاصة، أنتج دولًا جديدة احتفظت بتأثيرات تلك الحضارات. فإيران والعراق كانا مركزين عريقين في صناعة المنسوجات والأزياء الفاخرة، وقد تداخلت وتأثرت موضاتهما ببعضها البعض عبر الفترات. وحتى المماليك، الذين جُلِبوا من بلاد التركستان (أصل السلاجقة) وآسيا الصغرى، حملوا معهم تقاليد أزيائهم، مما يُظهر التأثير المتبادل بين هذه الدول رغم تعددها واختلافاتها الطفيفة في التفاصيل التي كانت تتأثر بالمناخ وتقاليد المجتمع، إلا أن طابع الوحدة الإسلامية كان يغلب على كل الفنون في تلك العصور.

وتستدل المؤلفة على هذا التأثير بالرسوم على الخزف السلجوقي في القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين، والتي سادت موضاتها في كل أنحاء البلدان التي حكمها الأيوبيون والسلاجقة والمماليك تحت مظلة الخلافة العباسية. فتداخل العلاقات بين الدولة السلجوقية الفارسية السنية والدولة العباسية العراقية، وكذلك تأثير البويهيين الفرس على الدولة العباسية في فترات أخرى، يوضح هذا التأثير العميق في أزياء العصور الإسلامية الوسطى.

وتختتم المؤلفة بالإشارة إلى أنه رغم وجود العديد من الكتب الرائعة في تاريخ الأزياء في العصور الإسلامية، والتي تناول كل منها عصرًا محددًا، إلا أن كتابها هذا يتميز بشموله لفترة تاريخية واسعة ومترابطة، حيث يتناول تاريخ الأزياء في العصور الإسلامية بتفصيل منذ ما قبل الإسلام وحتى نهاية العصر العثماني. وقد كان الغرض من هذا الاتساع هو تمكين القارئ من تتبع تطور الأزياء المختلفة، ظهورها واختفائها وتطورها، مع الإشارة إلى أصولها وجذورها. وقد استندت المؤلفة في بحثها إلى 256 مصدرًا ومرجعًا، بالإضافة إلى 20 رابطًا على الإنترنت، وتضمن الكتاب تحليلات ورؤى خاصة بها، وعرضًا لتطور أهم الأزياء في جدول يوضح هذا التطور بشكل ملموس وواضح.

وقد قُسم الكتاب إلى ثمانية فصول تتناول بالتفصيل: الأزياء في عصر ما قبل الإسلام (العصر الجاهلي)، والأزياء في العصر الإسلامي الأول (عصر النبي والخلفاء الراشدين)، والأزياء في عصر الدولة الأموية، والأزياء في عصر الدولة العباسية، والأزياء في عصر الدولة الفاطمية. كما أفردت فصلًا خاصًا لمعابر الحضارة الإسلامية والحملات الصليبية وتأثير ذلك في الأزياء الغربية، وتناولت أيضًا الأزياء في عصر الدول الأيوبية والسلجوقية، ثم الأزياء في عصر الدولة المملوكية، وأخيرًا الأزياء في عصر الدولة العثمانية. ويتبع ذلك ثبت بالمصطلحات وجدول بأهم الثياب وتطورها، ونماذج للشكل البنائي لطرز من الأزياء التاريخية التي يشملها الكتاب، الذي يقع في 634 صفحة ويضم 476 لوحة و18 خريطة و71 شكلاً توضيحيًا.

ويُذكر أن للمؤلفة مؤلفات أخرى تتناول ذات الأسلوب التحليلي الشامل، مثل: “كتاب طرز خاصة من تراث الأزياء الشعبية – التقليدية شمال إفريقيا حتى أوائل القرن العشرين (مصر وبلاد المغرب القديم)”، و”كتاب تاريخ الأزياء في حُقْبة أسرة محمد علي باشا وخلفائه (عسكرية ومدنية)”، و”كتاب من تاريخ المنسوجات وعناصره وأساليب زخرفتها”، و”كتاب الطرز التاريخية للأزياء التقليدية لدول وسط وغرب آسيا الإسلامية (إيران – باكستان – أفغانستان)”. هذه الأعمال مجتمعة تقدم إسهامًا قيمًا في فهم تاريخ الأزياء وتأثير الحضارات المتبادل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى