سماح جمال الدين: “شبح الطبيب” – نبض الإسكندرية في قلب الأدب
الأزهر والقرآن في صقل اللغة وتعميق الرؤى

الفانتازيا كـ”مرآة” لأعماق النفس البشرية
سماح جمال الدين كيف تكسر الكاتبة المنتقبة حواجز التلقي؟
كتب عزت اشرف
في فسيفساء المشهد الأدبي العربي المعاصر، تبرز أصواتٌ جديدة تسعى لإعادة تعريف السرد وتجاوز المألوف. من الإسكندرية، مدينة الحكايات العتيقة وروح الفن المتجددة، تأتي القاصة سماح جمال الدين لتقدم رؤية مختلفة عبر روايتها الأولى “شبح الطبيب”. هذا العمل ليس مجرد قصة تُروى، بل هو دعوة لاستكشاف الفجوات الخفية بين الواقع والخيال، بين الظاهر والباطن، وهو ما يلامس جوهر رحلتها الإبداعية. دعونا نتعمق في هذا الحوار لنكشف الأبعاد الفلسفية والتحديات الفكرية التي تشكل عالم هذه الكاتبة الواعدة
اولا يجب ان ندرك أن سماح جمال الدين ليست مجرد كاتبة، بل هي فكر متقد، ووعي ممتد، يسعى من خلال الكلمة والفن، إلى بناء جسور بين الأبعاد المختلفة للوجود الإنساني. إنها رحلة تستحق المتابعة، وتجارب تستلهم العقول وتغذي الأرواح.
تشارك سماح جمال الدين تجربتها الأولى في المعارض الدولية برواية “شبح الطبيب” كـ”إنجاز وعمل بارز”، تجاوزت به عتبة النشر نحو العالمية. هذا الاستقبال الحار من القراء، وثناءهم على “طريقة السرد واللغة العربية بجانب الحبكة”، لم يكن مجرد رد فعل عابر، بل هو تأكيد على أن العمل الفني الأصيل يجد طريقه إلى القلوب والعقول دون عوائق. هو شهادة على أن الكتابة الجيدة، بثرائها اللغوي وعمق حبكتها، لا تزال تمتلك قوة جذب لا تضاهى في زمن التشتت.
تصف سماح روايتها بأنها تتجاوز التصنيف، إذ تمزج بين الفانتازيا، الرعب، والجانب الاجتماعي، مع التركيز على “المشكلات النفسية”. هذا التداخل ليس عبثاً، بل هو انعكاس لفهم عميق بأن الواقع الإنساني ليس خطياً، وأن النفس البشرية غالباً ما تعيش صراعات تتجاوز الملموس. الفانتازيا والرعب هنا لا تُستخدم للهروب، بل كأدوات استكشافية، تُقدم عدسة مكبرة لرؤية العقد النفسية والاجتماعية التي قد تتوارى خلف قناع الحياة اليومية. إنها محاولة جريئة لرسم خرائط لدواخل الإنسان المعقدة، مستعينة ببعد غير تقليدي في السرد.
الأزهر والقرآن: تشكيل ملكة لغوية وعمق فلسفي
تتجلى الفلسفة العميقة في تكوين سماح جمال الدين من خلال دراستها الأكاديمية في جامعة الأزهر الشريف. حديث، تفسير، فقه مقارن، فلسفة، عقيدة، تيارات فكرية معاصرة، ومقارنة أديان، كلها روافد “تخلق نوعاً من التكامل الثقافي الكبير”. هذا التراكم المعرفي ليس مجرد حصيلة أكاديمية، بل هو بنية تحتية فكرية تمكنها من رؤية الوجود من زوايا متعددة، وفهم تعقيدات الفكر الإنساني.
الأهم من ذلك، تؤكد سماح أن “ارتباطها بالقرآن الكريم منذ الصغر” هو ما صقل “الملكة اللغوية” لديها. هذا الارتباط ليس مجرد قراءة نص، بل هو تشرب لجوهر اللغة العربية وبلاغتها وفصاحتها، مما يمنحها القدرة على صياغة المعاني العميقة بلغة لا تشوبها شائبة. إنها تدرك أن اللغة ليست مجرد أداة للتواصل، بل هي نسيج الفكر نفسه، والقرآن هو المنبع الذي يغذي هذا النسيج بالمتانة والجمال.
تعكس رحلة سماح من الكتابة الورقية في عزلة إلى النشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تحولاً جذرياً في المشهد الأدبي. بناء “قاعدة جماهيرية قبل كتابة روايتي الأولى” يمثل نموذجاً جديداً للتفاعل بين الكاتب والقارئ، حيث لم تعد دور النشر هي البوابة الوحيدة. هذا يطرح تساؤلاً حول مفهوم “الجمهور” ودوره في تشكيل ذائقة الأدب، ومدى تأثير التفاعل المباشر على العملية الإبداعية. ومع الإيجابيات، لا تخلو هذه المنصات من تحديات، كـ”انتشار أعمال قد لا ترقى للمستوى الثقافي” فقط بفضل الترويج. هذا يفرض على الكاتب الأصيل تحدي الحفاظ على الجودة في بحر من المحتوى.
تشارك سماح في مجموعة قصصية جديدة، وتصف التجربة بأنها “رائعة”، معتبرة إياها خطوة مهمة بعد روايتها الأولى. هذا يظهر حرصها على استكشاف أشكال أدبية مختلفة، وتعزيز قدراتها السردية تحت إشراف قامات أدبية مثل الكاتب عبد الرحمن محمد حنفي ودار ملاذ للنشر. التحضير لروايتها الجديدة، مدفوعاً بـ”رد فعل الجمهور وتفاعله”، يؤكد على العلاقة التبادلية بين الكاتب وقرائه، حيث يصبح القارئ جزءاً من العملية الإبداعية، ودافعاً لمزيد من العطاء.
ترى سماح أن العمل الصحفي يكمل العمل الكتابي، مستشهدة بأساتذة كبار مثل أنيس منصور وعباس العقاد. هذا التكامل ليس مجرد هواية أو مهنة إضافية، بل هو رؤية عميقة لدور المثقف. الصحافة تمنح الكاتب نافذة على الواقع اليومي وقضاياه الملحة، بينما الكتابة تتيح له التعمق في هذه القضايا وتحويلها إلى قوالب فنية تعيش أطول. هذا يفتح المجال أمام الكاتب ليكون صوتاً للمجتمع، لا مجرد ناقل للأحداث.
الإسكندرية: مدينة الإلهام والوعي الجمعي
تؤكد سماح أن الإسكندرية “تصنع كاتباً مبدعاً وقارئاً مبدعاً”، وأن “الجمهور السكندري جمهور بطبعه ذواق وصاحب ذوق رفيع وثقافة على مر العصور”. هذا ليس مجرد وصف جغرافي، بل هو اعتراف بتأثير المكان على الوعي الجمعي. الإسكندرية، بتاريخها الثقافي العريق، تتحول إلى ملهمة حقيقية، تخلق بيئة خصبة للإبداع وتنمي ذائقة فنية فريدة، لا نجدها في غيرها من المدن.
نصيحة وعقيدة: القراءة واللغة وطموح الأثر
تقدم سماح نصيحة جوهرية للكتاب الشباب: “أن يقدم على القراءة وأن يحسن من لغته العربية ويهتم بالورش الخاصة بتعليم مبادئ الكتابة”. هذه النصيحة تتجاوز الجانب التقني، لتؤكد على أن الكتابة هي نتاج قراءة عميقة وتراكم معرفي. طموحها في أن تكون “من أكبر كتاب الوطن العربي” ليس مجرد شهرة، بل هو رغبة في “إلقاء الضوء على المشكلات المجتمعية والنفسية”، وهو ما يعكس التزامها بالرسالة الأدبية كأداة للتغيير والتنوير.
وتناولت سماح تحدياً مهماً وهو “كيفية استقبال الجمهور لكاتبة منتقبة”. هذا الجانب يسلط الضوء على الأحكام المسبقة والتحديات التي قد تواجه الكاتبة في مجتمعاتنا، لكن نجاحها يؤكد أن الموهبة والعمق الفكري يتجاوزان هذه القوالب.
تعتبر سماح هواياتها وسيلة “للفصل من ضغوطات الحياة” و”تفريغ الطاقة السلبية”، وتؤمن بتكامل الهوايات لخلق الإبداع. هذا يعكس فلسفة حياة متكاملة، حيث لا ينفصل الإبداع عن الرفاهية النفسية والقدرة على التوازن بين الأدوار. تنظيم الوقت، وتدريب الأبناء على المسؤولية، كلها آليات تُمكنها من تحقيق هذا التوازن المعقد، في رحلة إبداعية تتطلب الصبر والتأمل المستمر.