الهانم نصابة”: نبض الكوميديا في قلب الرسالة… تحفة مراد المسرحية التي تُلامس الروح وتُحرك الوعي

تابع المسرحية
عزت اشرف
سماح السيد
شهد عزت
عبد الرحمن اشرف
في زحام المشهد المسرحي، حيث تتراقص الأضواء وتتعدد الحكايات، تبرز أعمالٌ لا تكتفي بملامسة السطح، بل تغوص في عمق الوجدان وتُضيء جوانب خفية من الواقع الإنساني. مسرحية “الهانم نصابة” للمخرج المبدع عادل مراد ليست مجرد عرضٍ عابر للضحك، بل هي شهادةٌ فنية على قدرة المسرح على أن يكون مرآةً للمجتمع، وصوتاً للضمير، ومنبراً للتغيير. من خشبة بسيطة بمكتبة مصر الجديدة، انطلقت هذه المسرحية لتُقدم مزيجاً فريداً من كوميديا الموقف الذكية، والرسائل الإنسانية العميقة، والروح الوطنية المتجذرة، في عرضٍ يُبهر بعبقرية إخراجه وتألق أداء ممثليه، ويُرسّخ مكانة مراد كفنان يكتشف النجوم ويصنع الفكر.
يُعد الإخراج في “الهانم نصابة” بصمةً فنية مُتفردة للمخرج عادل مراد، وتجليًا لنهجه المبتكر. يتجاوز مراد في رؤيته الإخراجية حدود الكوميديا التقليدية القائمة على النكات السريعة، ليُؤسس لضحكٍ أصيل ينبع من صميم المواقف الدرامية وتفاعلات الشخصيات العفوية. هذا البناء المتدرج للكوميديا، الذي يستمد فكاهته من تناقضات الحياة وتصرفات الأبطال، يضمن للمسرحية تأثيراً أعمق وأكثر دواماً، فكل ضحكة تحمل في طياتها وميضاً من الواقعية، وتُحرض على التفكير.
إن عبقرية مراد لا تتوقف عند حدود الضحك، بل تتسع لتشمل قدرته الفائقة على نسج الرسائل الوطنية والإنسانية في نسيج كوميدي متكامل. “الهانم نصابة” لا تُضحك فحسب، بل تُناقش بجرأة قضايا مصيرية كالانتماء للوطن، والتضحية من أجله في مواجهة قوى الظلام، ومحاربة آفة تجارة العملة في السوق السوداء التي تنهش الاقتصاد. هذا الدمج المُحكم، الذي غالباً ما يُشكل تحدياً كبيراً للكثير من الأعمال الفنية، ينجح فيه مراد ببراعة فائقة. فالجمهور لا يشعر بالوعظ المباشر، بل يجد نفسه يستمتع ويُفكر ويتعلم في آن واحد، في تجربة فنية تجمع بين الترفيه والتنوير.
وتبرز خبرة المخرج عادل مراد الطويلة، كفنان تشبّع بروح الفن الجميل، في توجيهه للممثلين – سواء المخضرمين أو الشباب – نحو أداء متناغم يُحقق رؤيته الفنية. إنه يفهم نفسية الممثل، ويُجيد استخراج أفضل ما لديه، وهو ما يتجلى في الديناميكية السلسة للأداء الجماعي، التي تُثمر مواقف كوميدية مُقنعة ومُفعمة بالمعنى.
تجديدٌ في روح الكوميديا الهادفة
ما يُقدمه عادل مراد في “الهانم نصابة” ليس مجرد عمل مسرحي، بل هو إعلان عن رؤية متجددة للمسرح المصري:
- فن المزج المتناغم: يُقدم مراد مزيجاً نادراً بين الكوميديا الجماهيرية الصادقة والرسالة العميقة التي تُلامس أوتار الوطنية والمجتمع. هذا التوازن الدقيق، الذي يمنع الملل أو الإحساس بالوعظ، يرفع من قيمة المسرح الكوميدي المصري ويُثريه.
- عين تكتشف النجوم: حرص مراد على تقديم كوكبة من الوجوه الشابة ومنحهم مساحة للتألق يُؤكد رؤيته الثاقبة لضرورة تجديد دماء المسرح. إنه ليس مجرد إشراك لأسماء جديدة، بل هو استثمار في مستقبل الفن، وتوفير منصة للمواهب لكي تنضج وتُشرق تحت إشرافٍ واعٍ. هذا “الضخ” المستمر للمواهب هو الشريان الذي يغذي حيوية المسرح ويمنع ركوده.
- إعادة تعريف الكوميديا: في زمنٍ قد تُسيطر فيه الكوميديا السطحية أو الساخرة، يُقدم مراد نموذجاً للكوميديا التي تُعلي من قيمة العقل وتُناقش قضايا جوهرية بأسلوبٍ خفيف يُحترم. هو يُعيد التأكيد على أن الكوميديا يمكن أن تكون قوة ناعمة للتغيير والتوعية، تتجاوز مجرد الترفيه العابر.
- المسرح كمنبر للوعي: يُعيد مراد للمسرح دوره الأصيل كمنبر للتوعية الوطنية، في زمنٍ تتنافس فيه وسائل الإعلام المختلفة. المسرحية لا تعرض المشكلات وحسب، بل تُحفز الجمهور على التفكير في الحلول، وتغرس فيهم قيم الانتماء والولاء بأسلوبٍ غير مباشر ومُمتع، مُجدداً بذلك دور المسرح كمرآة للمجتمع ومحرك للوعي الجمعي.
ما وراء الضحك: رسائل إنسانية تتجاوز الحدود
تُغوص “الهانم نصابة” في أبعادٍ أعمق تتجاوز الكوميديا والرسالة الوطنية الظاهرة، لتكشف عن أفكار إنسانية وعالمية تستحق التأمل:
- “الهانم نصابة”: قناع الحقيقة وعواقب الخداع: هذه الشخصية ليست مجرد محتالة، بل هي رمزٌ لظاهرةٍ مجتمعية مُتفشية: الاحتيال الذي يتخفى خلف قناع الاحترام الاجتماعي والوجاهة. إنها تُمثل “النصاب” الذي يرتدي مظهراً مرموقاً لخداع الآخرين. هذه الفكرة عميقة لأنها لا تقتصر على النصب المالي، بل تمتد لتشمل الاحتيال المعنوي والأخلاقي. المسرحية لا تُدين النصب وحسب، بل تُحذر من الوقوع في فخاخه، وتُشير إلى كيف يُمكن للشر أن يتخفى في أبهى صوره. الأعمق هنا هو استكشاف “ثقافة القناع” في المجتمع، حيث يُضطر الأفراد أحياناً لارتداء أقنعة للحصول على القبول أو تجنب اللوم، مما يخلق طبقات من عدم الشفافية والثقة. المسرحية تُثير تساؤلاً جوهرياً: كم من الأقنعة نرتديها، وكم من المرات نخدع أنفسنا بمظهر الأشياء لا جوهرها؟ هذا التحليل يُوسع نطاق الشخصية من مجرد محتالة إلى رمز لظاهرة اجتماعية عالمية تتجاوز الحدود الثقافية.
- بذور الانتماء: دعوة للتضحية في زمن التشكيك: في زمن تتزايد فيه السخرية من القيم الوطنية وتنتشر اللامبالاة، تُعيد المسرحية التأكيد على أهمية الانتماء وحب الوطن والتضحية من أجله. هذه الفكرة لا تُقدم كشعارات جوفاء، بل تتجسد من خلال أحداث وشخصيات تُظهر قيم التضحية والولاء الحقيقي. المسرحية تسعى إلى إيقاظ الوعي الوطني لدى الجمهور، وتذكيرهم بأن الوطن هو الحاضنة الأساسية لهويتهم ووجودهم. العمق هنا يكمن في مواجهة حالة التشكيك واللامبالاة التي قد تسود بعض شرائح المجتمع. المسرحية لا تقدم حلاً جاهزاً، بل تطرح تساؤلاً: كيف يمكن للفرد أن يجد معنى الانتماء في عالم متغير؟ وكيف يمكن للمسرح، كقوة ناعمة، أن يعيد غرس هذه القيم في نفوس الأجيال الجديدة، ليس بالوعظ المباشر، بل بالقصة الشيقة والكوميديا التي تلامس القلوب والعقول؟ إنها دعوة للتفكير في مسؤولية الفرد تجاه مجتمعه، وكيف أن التغيير يبدأ من الالتزام الشخصي.
فضاء المسرح: بساطة الديكور وعمق الرؤية
في “الهانم نصابة”، لم يكن الديكور بسيطاً بمحض الصدفة أو كخيار اقتصادي، بل كان خياراً فنياً ذكياً يعكس رؤية المخرج عادل مراد الواضحة. هذه البساطة سمحت للمسرحية بالتركيز المطلق على جوهر العمل: العنصر البشري، تفاعلات الشخصيات العميقة، والأفكار الجوهرية التي تطرحها. عندما يُصبح الديكور غير مُبالغ فيه، يُصبح المسرح فضاءً مفتوحاً للخيال، حيث يُساهم الجمهور في ملء الفراغات بمعانيه الخاصة، وتُصبح عين المشاهد مُركزة بالكامل على الأداء والمحتوى الوجداني.
هذه البساطة لم تمنع المسرحية من احتواء أفكار إنسانية عظيمة. على سبيل المثال، تناول المسرحية لقضية الخلع ومعاناة الرجال منها يفتح باباً لمشكلة اجتماعية معقدة غالباً ما يتم تجاهل الجانب الذكوري فيها. الديكور البسيط هنا لا يصرف الانتباه عن آلام شخصية مثل “تارجال”، التي تُجسد هذه المعاناة الإنسانية. بدلاً من المشاهد الفخمة التي قد تُشتت التركيز، يجد المشاهد نفسه أمام معاناة إنسانية خالصة، تتجسد في حركات الممثلين وتعبيراتهم وصراعاتهم الداخلية والخارجية. هذه البساطة تزيد من قوة الرسالة، لأنها تجعل القضية عالمية وإنسانية، لا ترتبط بمكان أو زمان محددين بقدر ارتباطها بالمشاعر الإنسانية الأساسية، مما يُرسخها كقضية عالمية تتجاوز الحدود الثقافية.
مشهدية مبهرة: حكاياتٌ تُروى على خشبة الإبداع
تتألق “الهانم نصابة” في تقديم مشاهد مُصاغة ببراعة، تحمل بصمة عادل مراد الإخراجية وتكشف عن أفكاره العميقة:
- مشهد الخلع: ألمٌ إنساني يَتجاوز القانون: يُعد هذا المشهد من أجمل وأعمق المشاهد في المسرحية. إنه ليس مجرد عرض لمشكلة قانونية، بل هو تصوير حي لمعاناة إنسانية مشتركة. المشهد يتجاوز مجرد سرد التفاصيل القانونية للخلع ليغوص في التداعيات النفسية والاجتماعية على كل من الزوج والزوجة. ربما يظهر هذا المشهد ضعف التواصل بين الطرفين، أو غياب التفاهم، أو حتى القسوة التي قد تتخلل العلاقات الإنسانية. الجمال في هذا المشهد يكمن في قدرته على استحضار التعاطف مع الطرفين، وتجاوز النظرة النمطية للمرأة أو الرجل في قضايا الطلاق. من خلال الأداء المتقن، ينقل المشهد للمشاهد مرارة الفراق، ويُظهر أن وراء كل قضية خلع قصصًا إنسانية معقدة تستحق التأمل والتحليل. يساهم الديكور البسيط هنا في تركيز الانتباه على حوار الشخصيات ولغة أجسادهم، مما يضفي عمقًا أكبر للمشهد، ويجعل من معاناة “تارجال” قضية إنسانية عالمية.
- المشهد الختامي: ضمير الوطن يتجلى على الخشبة: في اللحظة الأخيرة، يبرز عادل مراد نفسه على المسرح في شخصية مدير الشركة ليقدم رسالة مباشرة عن أهمية حب الوطن. هذا ليس مجرد مشهد وعظي، بل هو خاتمة قوية تُكثف الرسالة الأساسية للمسرحية. إن ظهور المخرج بشخصيته المباشرة في نهاية العرض هو اختيار فني جريء وغير تقليدي. هذا النوع من “كسر الجدار الرابع” يهدف إلى خلق اتصال مباشر مع الجمهور، ليخرجوا من المسرح وهم يحملون رسالة واضحة ودافعة. مدير الشركة هنا لا يمثل فقط المسؤول الإداري، بل يرمز إلى الضمير الوطني الواعي الذي يذكر الجميع بمسؤولياتهم تجاه البلد. هذا المشهد يربط كل خيوط المسرحية ببعضها البعض: محاربة النصب، الفساد المالي، والإرهاب، كل ذلك يصب في خانة حب الوطن والدفاع عنه. إنه بمثابة بيان ختامي يؤكد أن الفن ليس مجرد ترفيه، بل هو أداة للتوعية والتغيير المجتمعي.
: نجومٌ تُضيء سماء “الهانم نصابة”
تجمع “الهانم نصابة” بين خبرة النجوم المخضرمين ووجوه شابة واعدة، في مزيج يؤكد رؤية عادل مراد الثاقبة كمكتشف للنجوم وموجه للمواهب:
- محمد المغربي: النجم الذي يتصدر البطولة، يقدم أداءً متفردًا يمزج بين الخبرة الطويلة والكوميديا المتجددة. قدرته على التلون في الأدوار وتجسيد الشخصيات ببراعة، مستفيدًا من تاريخه الفني الغني، تجعله محورًا أساسيًا في ديناميكية المسرحية الكوميدية والدرامية على حد سواء. يُعد وجوده عنصر جذب وثقل للمسرحية.
- الفنان بدير (أبو طربوش): هذا الممثل الكوميدي “الخطير” بأدائه الذي لا يُنسى كـ “أبو طربوش”، يضيف للمسرحية نكهة خاصة من الكوميديا الأصيلة. أداء بدير غالبًا ما يعتمد على الفكاهة الجسدية، وتعابير الوجه، وطريقته الفريدة في إلقاء الإفيهات، مما يجعله عنصرًا رئيسيًا في جذب الضحك. وجود شخصية بهذا الطراز يثري الكوميديا ويضمن تفاعل الجمهور، ويبرز قدرة المسرح على استيعاب الشخصيات الشعبية المحببة.
- شروق (دور الصعيدية): تألق الفنانة الشابة شروق في دور الفتاة الصعيدية ببراعة يدل على موهبة حقيقية وقدرة على تجسيد الشخصيات ذات الطابع الخاص. هذا الدور يتطلب إتقانًا للهجة والحركات والطباع، مما يضفي لمسة من الأصالة والواقعية على المسرحية، ويخلق تباينًا كوميديًا أو دراميًا مع باقي الشخصيات. أداء شروق يضيف عمقًا ثقافيًا للمسرحية، ويُظهر التنوع الغني للشخصية المصرية.
- شيماء (النصابة): أداء شيماء لدور “النصابة” بعبارتها المميزة “اخويا اخويا” يُعد علامة فارقة. هذه العبارة وحدها تكشف عن قدرة الممثلة على خلق لازمة كوميدية أو درامية تعلق بذهن الجمهور. شخصية النصابة هي محور المسرحية، وتجسيدها بذكاء يجمع بين المكر والجاذبية يتطلب مهارة عالية. من الواضح أن شيماء نجحت في إضفاء طبقات متعددة على الشخصية، مما جعلها مقنعة ومثيرة للاهتمام، وربما تثير تساؤلات حول دوافعها وتاريخها. عبارة “بزمة اخويا اخويا” لا تضحك الجمهور فحسب، بل يمكن أن تكون رمزًا لطبيعة بعض المحتالين الذين يستغلون الثقة والعواطف.
- ايمي رشدي فنانة شابة موهوبة تمثل بسلاسة ودون انفعال وبهدوء لتذكرنا بطلة الفنانة نادية لطفي ببصمتها الخاصة
- الجيل الشاب: المخرج عادل مراد يمنح الفرصة لجيل جديد من الممثلين الشبان، وهم: أميرة محمد، محمد شريف، ماركو منير، روزيتا الموهوبة الجميلة التلقائية التي تعبر عن جورها بصدق واقتناع واقناع و، أحمد ماندو، محمد سعيد، إسحاق أبو بكر، الاسكندراني حمدي شاهين خفيف الدم الموهوب، حسني السيد صاحب الطلة المميزة ، إيمان أشرف، شروق محمود صاحبة اجمل ابتسامة ، محمود فرغلي خفيف الظل ونجم الكوميديا القادم و سيد كمال، فرج حسني، شيماء، وأحمد ناصر. وجميعهم مجموعة مواهب وكنوز فنية و يُظهر إشراك هذا العدد الكبير من المواهب الشابة رؤية مراد المستقبلية وحرصه على تجديد دماء المسرح. هذا ليس مجرد إشراك لأسماء جديدة، بل هو استثمار في مستقبل المسرح، وتوفير منصة للمواهب لكي تنضج وتتألق تحت إشراف خبرة. هذا “الضخ” المستمر للمواهب هو الذي يحافظ على حيوية المسرح ويمنع ركوده، ويضمن استمرارية الفن المسرحي.
- الأطفال الموهوبون: أضاف الأطفال المشاركون وكلهم موهوبون وموهوبات بلا استثناء وللاسف لا تحضرني اسماءهم ولهم مني كل اعتذار فوجودهم في المسرحية اضاف لمسة خاصة لا تقدر بثمن. وجود الأطفال في الأعمال الفنية غالبًا ما يضفي عفوية وبراءة، ويلمس قلوب الجمهور بشكل مباشر. لكن في “الهانم نصابة”، يمكن أن يكون لوجودهم بُعد أعمق: فهم يمثلون مستقبل الوطن. مشاركتهم في مسرحية تتناول قضايا وطنية تعني غرس قيم الانتماء والوطنية في نفوسهم من الصغر، وتدريبهم على تحمل المسؤولية تجاه وطنهم. كما أنهم يمثلون الأمل في غد أفضل، حيث يمكن أن يصبحوا هم أنفسهم حماة للوطن في المستقبل. أداؤهم الطبيعي غير المصطنع غالبًا ما يكون نقطة جذب كبيرة في المسرحيات، وقد يكونون مصدرًا لبعض المواقف الكوميدية البريئة والمؤثرة.
هذا التناغم بين المخضرمين والشباب، والتألق الفردي لكل منهم، يبرهن على عين المخرج عادل مراد الثاقبة في اختيار الممثلين وقدرته على استخراج أفضل ما فيهم، ويؤكد على أن نجاح المسرحية هو نتاج عمل جماعي متكامل.