التكنولوجيا.. نعمة أم نقمة؟

د. عبدالله صادق دحلان
في زمن أصبحت فيه الأجهزة الذكيَّة ترافقنا في كل مكان أكثر من أقرب الناس لنا، ترافقنا في المجالس، وعلى موائد الطعام، وفي السيارات، وفي أماكن العمل، والأسواق، وحتى في غرف النوم، وتُقاس جودة اليوم بعدد الرسائل والتنبيهات والاتصالات المستلمة، والمشاركة في مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة، يبرز سؤال هام هو: هل سهَّلت التكنولوجيا تواصلنا، أم سرقت منَّا إنسانيتنا؟.
لا شكَّ أنَّ الثورة الرقميَّة قلبت موازين الحياة، وغيَّرت أسلوب حياتنا بشكل كبير، فقد أصبح بإمكاننا التواصل مع أي شخص في طرف الكرة الأرضيَّة الآخر بكبسة زر، ونتبادل التهاني والصور والمشاعر بشكل لحظي، ووفَّرت لنا التقنية أدوات غير مسبوقة للتعلُّم والعمل والتسلية، وجعلت العالم قرية صغيرة تمكِّن الفرد من محادثة ورؤية أيِّ شخص، أو رُؤية أيِّ مكان في العالم. لكن، في ضوء هذا التطور، بدأنا نخسر شيئًا أثمن: العمق الإنساني في العلاقات.
أصبح يُستبدل باللقاء الودي مكالمة، وتُستبدل بالمكالمة رسالة، وتُستبدل بالرسالة رمز تعبيري، والمشاركة في الأفراح والأعياد، وحتى في تقديم التعازي أصبحت برسالة إلكترونيَّة، وشيئًا فشيئًا، أصبحنا نعيش على هامش التواصل الحقيقي، نختبئ خلف الشاشات، ونهرب من المواجهات، ونؤثر الراحة الرقميَّة على دفء الحضور.
وهنا تبرز قصص من الواقع تُضيء لنا الصورة بشكلٍ أوضح، مثل هذه القصة التي أرسلها لي صديق عزيز، قصة تستحق التأمل عن تجربة أحد الأبناء مع والده، حيث قال الابن: «قضيت ساعة في البنك مع والدي؛ لأنَّه كان يُحوِّل أموالًا لبعض المؤسسات الخيريَّة، فقلت له متحمسًا: «أبي، ما رأيك أنْ أُنشئ لك خدمة مصرفيَّة إلكترونية؟، لن تضطر لقضاء الوقت في الطوابير بعد اليوم!». فأجابني بعد صمت: وهل إذا فعلتُ ذلك، سأبقى في البيت دائمًا؟.
شرحتُ له كيف أنَّ كل شيء اليوم يمكن أنْ يُطلب بضغطة زر، من الطعام، إلى الملابس، إلى الفواكه… لن يحتاج حتى إلى الخروج من المنزل. لكن إجابته الصادقة فاجأتني: «منذ وصولي إلى البنك اليوم، التقيتُ بأربعة أصدقاء، وعُدنا إلى ذكريات الزمن الجميل، إلى الطفولة والشباب ومراحل معيَّنة من حياتنا، وتحدَّثتُ قليلًا مع الموظفين الذين يعرفونني جيدًا، أنت تعلم أنَّني وحدي، وأحتاج لمن أتحدث إليه، وأنْ نتذكر بعض الذكريات المشتركة، هذه هي الصحبة التي أحتاجها، أحب أنْ أرتدي ملابسي، وأذهب إلى البنك، أو أي مؤسسة، أو أنْ أشتري بنفسي ما يلزمني، وأقضي كل ما أحتاجه، لديَّ وقت وأبحث عن اللمسة الإنسانيَّة.
قبل عامين مرضتُ، ولم أخرج من البيت لعدَّة أيام، فجاءني صاحب المتجر الذي أشتري منه الفاكهة لزيارتي، وجلس بجانب سريري وبكى، وحضر كل اصدقائي من المسجد ليطمئنوا على صحتي، وحضر بعض أصدقائي من المصنع الذي كنا نشتغل به، وعندما وقعت والدتك قبل بضعة أيام في نزهتها الصباحيَّة، رآها صاحب البقالة المحلي، فأحضر سيارته على الفور ليقلَّها إلى المنزل؛ لأنَّه يعرف مكان سكني.
هل سأحظى بتلك اللمسة الإنسانيَّة إذا كان كل شيء إلكترونيًّا؟. لماذا أرغب في أنْ يحضر كل شيء إليَّ، وأُجبر على استخدام الكمبيوتر فقط؟. هل الكمبيوتر يشعر بألمي؟ هل يشعر بقلقي؟ هل يشعر في أحزاني وأفراحي وطموحي؟ هل يشعر بوحدتي؟. أُحب أنْ أعرف الشخص الذي أتعامل معه، وليس مجرد «مندوب المبيعات»، هل هذا يبني العلاقات بيني وبين جيراني، أو أقاربي، أو أبناء عائلتي، أو زملائي؟. هل ستمنحني الشركة الإلكترونيَّة ذلك أيضًا؟».
هذه القصة البسيطة تختصر الحقيقة: التكنولوجيا تريحنا، لكنَّها لا تعوِّضنا عن الآخرين.
تشير دراسة نشرتها جامعة هارفارد؛ إلى أنَّ متوسط الوقت الذي يقضيه الفرد يوميًّا على الهاتف الذكي حوالى 4 ساعات، وأكثر من 5 ساعات لدى المراهقين. كما أظهر تقرير صادر عن منظمة الصحَّة العالميَّة أنَّ مشاعر العزلة والوحدة ارتفعت بنسبة 30٪ بين مَن يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي بشكلٍ مفرط.
وفي اليابان، ظهرت أماكن تُسمَّى «مقاهي الصمت»، وهي أماكن يُمنع فيها استخدام الهواتف، ووسائل التواصل الاجتماعي، وتهدف لإعادة التواصل الواقعي بين الناس.
إنَّ المشكلة لا تكمن في التقنية، بل في استخدامها المفرط على حساب العلاقات الواقعيَّة، إن التكنولوجيا أداة قوية، لكنها لا تعوض دفء الوجود البشري والتواصل الاجتماعي، فلن تغني أقوى كاميرا في جهاز الجوال عن نظرة صادقة، ولن توازي أسرع شبكة لحظة لقاء مع مَن نُحب، إنَّ التكنولوجيا من صنع البشر، لكنَّها لا تصنع البشر.
ونصيحتي اليوم للقارئ هي: اقضِ وقتًا مع النَّاس، لا مع الأجهزة، فالحياة لا تُعاش عبر الشاشات، بل تُبنى بلقاءٍ حقيقي، وبكلمةٍ طيبة، فالتكنولوجيا ليست حياة، بل مجرد وسيلة. وأجزم أنَّ التكنولوجيا نعمة، لو أُحسن استخدامها.