منوعات

عبقرية محسن رزق تُعيد تشكيل المسرح بـ”الملك وأنا”

المسرح ينطق.. محسن رزق ينسج قصة الشعب والسلطة في "الملك وأنا"

كتب : عزت اشرف 

“المسرح هو المنبر الوحيد الذي يُلقي فيه الخطاب، لا لتُقال الحقيقة، بل لتُعاش”. بهذه الكلمات المأثورة، تتجلى رسالة المسرح الخالدة التي يجسدها المخرج محسن رزق في تحفته الفنية “الملك وأنا”. ففي زمن تكتظ فيه الخشبات بالتقليد، ويقتصر فيه الفن على مجرد الترفيه، يسطع اسم رزق كقوة فنية متفردة، فهو ليس مجرد مخرج، بل هو “عبقري المسرح” الذي يعيد الروح إلى الخشبة، ويجعل من كل تفصيلة في العرض لوحة فنية نابضة بالحياة، تتجاوز حدود الزمن والمكان، لتغرس في نفوس المشاهدين بذرة الفكر والإبداع.

لقد قدم رزق في مسرحية “الملك وأنا” عملًا متكاملًا، لا يمكن وصفه إلا بأنه تحفة فنية خالدة، تحمل في طياتها تحليلًا معمقًا لم يسبق له مثيل للعلاقة الأزلية بين السلطة والجهل. إن إبداعه يكمن في قدرته على تحويل قصة عابرة إلى مرآة حقيقية تعكس واقعنا المعاصر بجرأة وجمال.

مسرح ينبض بالحياة.. والمشاهد جزء من التجربة
من اللحظة الأولى التي ترتفع فيها الستارة، تشعر وكأنك انتقلت إلى عالم آخر. حالة المسرح ليست مجرد عرض، بل هي تجربة فريدة من نوعها. فالمشاهد ليس مجرد متلقٍ، بل هو جزء أصيل من العمل. يعود الفضل في ذلك إلى الرؤية الجبارة لمحسن رزق الذي كسر الجدار الرابع، وأدخل الجمهور في صلب الأحداث، ليؤكد أن المسرح، حين يُصنع بعشق، يمكن أن يصبح منارة للتنوير وجسرًا للحقيقة.

الحب والحياة.. في صراع مع الجهل
تكمن عبقرية محسن رزق في قدرته على إعادة تقديم حكاية كلاسيكية برؤية متجددة وجريئة. لقد صاغ المسرحية لتكون صرخة مدوية بأن الشعب هو مصدر كل سلطة وقوة. من خلال قصة ملك جزيرة “سيام” الذي يعتقد أنه ظل الإله على الأرض، يطرح رزق رؤية نقدية عميقة للجهل والديكتاتورية. إن المسرحية ليست مجرد قصة ملك ومعلمة، بل هي محاكمة فنية لطغيان الجهل، وشهادة فنية على أن الشعب هو القوة الحقيقية التي لا يمكن هزيمتها.

سينوغرافيا متكاملة.. تتحدث عن كل شيء
لقد تجاوز محسن رزق استخدام عناصر المسرح التقليدية، ليجعلها أداة فعالة في بناء رؤيته، فكانت كل تفصيلة في العرض بمثابة كلمة في قصيدة فنية متكاملة، بداية من أشعار عادل سلامة التي عبرت عن المعاني بجمالية بالغة، وألحان عصام كاريكا التي شكلت موسيقى تصويرية آسرة، وصولًا إلى استعراضات حسن شحاتة التي كانت لغة جسدية معبرة عن التحولات النفسية للشخصيات.

إن جماليات العرض تظهر في ديكور حمدي عطية الذي لم يكن مجرد خلفية، بل كان تجسيدًا ماديًا للجهل والعزلة. وتأتي أزياء مروة عودة لتضيف دلالة رمزية واضحة، فأزياء الملك كانت ثقيلة ومهيبة ترمز إلى ثقل الماضي على الحاضر، بينما كانت أزياء “ياسمين” بسيطة وأنيقة ترمز إلى العصر الحديث. أما استخدام الفيديو والجرافيك، الذي صممه جون بهاء، فلم يكن مجرد إضافة جمالية، بل كان بمثابة نافذة يطل منها الجمهور على عالم أوسع، خارج حدود مملكة الجهل، ليؤكد أن العالم يتغير. كما كان لإضاءة عز حلمي دور أساسي في إثراء العمل، فحول المكان من ظلام وجهل إلى نور ومعرفة، وكأنها تضيء العقول قبل الخشبة.

قصة حب إنسانية.. على لسان “لارا”
تعد شخصية “لارا”، الأسيرة التي تدافع عن حقها في الحب، ذروة العمل الفني. لم يكن دورها مجرد قصة جانبية، بل كان بمثابة البيان الإنساني الذي يعبر عن قضية المسرحية الأساسية. ففي مشهد المحاكمة المؤثر، حيث تدافع عن حقها في اختيار من تحب، تتحول شخصيتها من مجرد أسيرة إلى أيقونة الحرية الفردية وحقوق الإنسان. لقد قدمت هبة محمد أداءً أشعل المسرح وأبكى الجمهور، ليؤكد أن المسرح قادر على أن يثير فينا الشغف والعدالة، وأن يذكرنا بأن الحب والحرية هما وجهان لعملة واحدة.

أداء الأيقونات.. حين يتحدث الفن عن نفسه
لم يتعامل محسن رزق مع شخصيات المسرحية كأفراد، بل كأيقونات تحمل دلالات أعمق، فكانت كل شخصية بمثابة مفتاح لفهم رؤيته الفكرية.

لقاء الخميسي في دور المعلمة “ياسمين” تقدم أداءً لا يمكن وصفه إلا بأنه “سيمفونية من الرقي الفني”.

فريد النقراشي في دور الملك، أبدع في “الكوميديا الجروتسكية” ببراعة لا توصف.

خالد إبراهيم، علاء عيد، نور الشرقاوي، طارق مرسي، أشرف شكري، قدموا أدوارهم بوعي فني عالٍ، أثرى العرض وأضاف إليه عمقًا.

هدى هاني قدمت دورها بتركيز واختلاف أثري العرض المسرحي، والأطفال المشاركون كانوا رمزًا للمستقبل الذي يبدأ بالتغيير.

 

وفي الختام، إن مسرحية “الملك وأنا” هي شهادة فنية على أن المسرح المصري لا يزال قادرًا على الإبهار والتأثير. لقد قدم المخرج محسن رزق مع فريق عمله، من الممثلين وعماد عبدالعظيم وياسر جمعة وحسام منسي، تحت إشراف الفنان طارق مرسي والفنان تامر عبد المنعم، تحفة فنية متكاملة، لا يمكن لأي تحليل أن يحيط بجميع أبعادها. إنها دعوة للتأمل، وصرخة للوعي، ودرس عميق بأن قوة الشعب ومعرفته هي القوة الوحيدة التي لا تقهر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى