منوعات

حين يثور عبد الحليم حافظ على نسخته المزيفة: الفن روح لا تُستنسخ”

بقلم : عزت اشرف 

zt211151@gmail.com

 

القاعة مظلمة، الستارة تهتز، والجمهور يحبس أنفاسه. فجأة، يظهر على المسرح رجل ببدلة أنيقة وصوت رخيم يهتف: “جانا الهوى من غير مواعيد…”. تتسع العيون، تتدفق الدموع، وتعلو الصرخات: “إنه عبد الحليم!”. للحظة قصيرة يعود الزمن إلى الوراء، لكن الحقيقة صادمة: عبد الحليم لم يعد. ما يظهر أمامنا ليس سوى طيف رقمي صنعته خوارزميات وبرامج، استنسخت صوته من تسجيلات قديمة، وجسده من صور باهتة، وحولته إلى كيان يمشي ويغني ويبتسم. وهنا يدوّي السؤال: هل هذا هو عبد الحليم فعلًا أم مجرد نسخة باردة بلا قلب؟

الفن يا سادة ليس مجرد نغمات وألوان وحركات يمكن للآلة أن تقلدها. الفن جوع ودمعة وارتعاشة يد وحب خائب وأحلام لم تكتمل. هل يمكن لخوارزمية أن تفهم قلب حليم الممزق بالمرض وهو يغني “جبار”؟ هل تستطيع آلة أن تشعر بالخذلان الذي دفع بيتهوفن ليكتب سيمفونيته التاسعة وهو أصم؟ الذكاء الاصطناعي قادر على تقليد الشكل ونسخ الصوت وتركيب الصور، لكنه في النهاية يظل نسخة بلا روح، والفن الحقيقي لا يُستنسخ لأنه روح.

المفارقة المؤلمة أن الجمهور يصفق، ويدفع المال، ويتدافع لشراء التذاكر، ويصرخ: “رجع زمن الفن الجميل!”. لكن في الحقيقة، الجمهور صار شريكًا في الجريمة: جريمة تحويل الفن من تجربة إنسانية خالصة إلى سلعة رقمية معلبة. وكأننا لا نحتمل فكرة أن الفن مثل صاحبه، يولد ويموت، فنستدعي الأشباح لنملأ الفراغ.

ولنتخيل المشهد من زاوية أخرى: فنان شاب اليوم يحاول أن يشق طريقه، يبحث عن جمهوره وصوته الخاص. فجأة يجد نفسه في مواجهة نسخة رقمية لعبد الحليم أو أم كلثوم مدعومة بجيوش من البرمجيات والشركات. كيف له أن ينافس شبحًا من الماضي؟ أليس من الظلم أن يواجه الأحياء أشباحًا تُستنسخ بلا توقف؟ هكذا يصبح المستقبل مسرحًا يعجّ بالموتى بينما يختنق الأحياء.

ولو كان للفن أن يتكلم لوقف بنفسه على الخشبة وصرخ: “كفى أيها البشر! أنا لست ملفًا يُحمّل على خادم، أنا دمعة شاعر في ليلٍ طويل، أنا قلب ممثل حين كسرته الحياة، أنا جوع موسيقي لم يجد ثمن العود فغنى من ألمه. لا تحوّلوني إلى نسخة بلا قلب، فأنا لا أعيش بلا روح.”

قد يقول البعض: وما الضرر؟ أليس جميلًا أن نعيد سماع صوت عبد الحليم أو أم كلثوم؟ أن نرى شكسبير يكتب مسرحية جديدة لم يعرفها التاريخ؟ نعم، يبدو ذلك حلمًا، لكن كل حلم عظيم يخفي كابوسًا. الكابوس هو أن نرضى بالوهم، ونستبدل الفن الحي بالأشباح الرقمية، أن نعيش على ظلال الماضي بدل أن نصنع مستقبلًا.

ونحن لسنا بعيدين عن هذا المشهد. شهدنا حفلات لأم كلثوم وعبد الحليم بالهولوغرام، امتلأت بها القاعات وتصفيق الحاضرين. لكن كم واحد خرج وهو يشعر أن قلبه لم يرتجف كما كان؟ أن الصوت كان حاضرًا، لكن الروح غائبة؟

الفن الحقيقي يخلد لأنه يُحفر في الذاكرة. عبد الحليم لا يحتاج لنسخة رقمية كي يعيش، وأم كلثوم لا تحتاج لهولوغرام كي تظل سيدة الغناء. الخطر أن نعتقد أن الخلود يعني إعادة إنتاج الأجساد، بينما هو في الحقيقة إبقاء الأثر حيًا في الوجدان. ربما لو عاد عبد الحليم للحظة، ونظر إلى نسخته المزيفة، لابتسم بحزن وقال: “أنا غنيت لأعيش في قلوبكم، لا في خوادمكم.”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى