د عادل بدر.. شاعر البرونز الذي صنع من النحت لغة عالمية في معرض “حالة مصرية” بالقاهرة

كتب عزت اشرف
في زمن تتشابك فيه الأسئلة الإنسانية مع تحولات الفن المعاصر، برز اسم الأستاذ الدكتور عادل بدر في المعرض الجماعي “حالة مصرية”، الذي استضافته قاعة Demi بالزمالك. فالفنان المصري المخضرم، أستاذ النحت بجامعة القاهرة والمدير السابق لمركز إبداع قصر الأمير طاز، أعاد من خلال مشاركته الأخيرة تعريف دور النحت كفن قادر على استيعاب الواقع وإعادة صياغته عبر لغة فلسفية وتشكيلية متجددة.
فلسفة بدر في النحت
يستند بدر في أعماله على رؤية جوهرية مفادها أن الخامة ليست مادة خاملة، بل كيان حي يحمل ذاكرة وإرثاً، وبالإصغاء إليها يمكن للفنان أن يستخرج عوالم جديدة. أعماله في “حالة مصرية” جاءت كمزاوجة دقيقة بين البرونز والزجاج والحديد والخشب، ليخلق بذلك “ثنائيات” تمثل قلب تجربته: الصلب والشفاف، الخشن والناعم، الثابت والمتحرك.
بهذا النهج، لا يقدّم بدر أعمالاً جاهزة للتأمل فقط، بل يضع المتلقي أمام مختبر بصري فلسفي، يختبر فيه العلاقة بين المادة والروح، وبين الملمس والمعنى.
ديناميكية الأسطح
يتميّز بدر بقدرة استثنائية على جعل السطح النحتي مساحة ديناميكية نابضة بالحياة. ففي أعماله، تتحول الخطوط الحادة إلى امتدادات لينة، وتذوب القسوة في نعومة بصرية مدروسة. هذا التباين الملمسي واللوني لا يخلق جماليات شكلية فحسب، بل يدفع المتلقي إلى قراءة العمل باعتباره نصاً فلسفياً مفتوحاً، يختزن في طياته الصراع الأبدي بين الثنائيات الكبرى في الوجود.
أعماله في المعرض: من التأمل إلى الأسطورة
من أبرز أعماله التي أثارت النقاد والجمهور:
“تناغم” (برونز – 11×11×35 سم)، عمل يتأمل جدلية التوازن في العالم المادي.
“ظل الإنسان” (برونز – 15×15×54 سم)، قراءة بصرية لمسألة الهوية والذاكرة.
“مائدة السماء” (برونز وزجاج – 10×45×35 سم)، حوار بين المادي والروحي.
“طائر” (برونز وزجاج – 30×12×43 سم)، دعوة رمزية للتحرر والانعتاق.
وهناك عمل آخر شارك به الفنان عادل بدر فى هذا المعرض “حالة مصرية”، يعبر العمل عن تكوين تتعانق فيها الخطوط العضوية مع الهندسية، متناولاً فكرة العائلة مستخدماً اللون الذهبى الذى أثرى المشهد التشكيلى وأكد على ثراء الفكرة، ويحتوى العمل على أربعة عناصر آدمية رئيسية لأب وأم فى حالة احتضان للأبن والأبنة الجالسين على مقعد من الحديد، واستخدم الفنان أسلوب التشكيل الخطى ومعالجات الثنى والفرد على البارد والساخن، وتقنية اللحام الكهربائى لتثبيت الأشكال على قاعدة من الصاج المجلفن
“المعبودة” (برونز – 10×10×51 سم)، إعادة صياغة للرموز الميثولوجية في ضوء معاصر.
لكن ذروة التجربة جاءت مع عمله “العائلة”، الذي شكّل لحظة مفصلية داخل المعرض. العمل المؤلَّف من أسياخ وخوص حديدية وصاج مجلفن بلمسة ذهبية، جسّد أباً وأماً في احتضان لأبنائهما، على مقعد معدني بسيط. هنا، يستخدم بدر تقنيات اللحام والتشكيل بالثني والفرد ليخلق مشهداً إنسانياً بالغ العاطفة، يعبّر عن دفء الروابط الأسرية في زمن يطغى فيه التفكك والانفصال. إنه عمل يتجاوز حدود التكوين المادي ليصبح أيقونة للتماسك الإنساني.
نقد فلسفي للفن المعاصر
أهمية تجربة بدر تكمن في ابتعاده عن التجريدية العشوائية التي تفتقد المرجعيات، وفي الوقت نفسه تجاوزه للواقعية التقليدية. إنه يقترح بديلاً يقوم على صياغة تعبيرية علمية وثقافية، تستند إلى أسس راسخة لكنها مفتوحة على الابتكار.
في هذا السياق، يمكن القول إن بدر يطرح نموذجاً ثالثاً في النحت المعاصر: لا هو انغماس في التجريد المنفلت، ولا هو استعادة جامدة للتقاليد، بل هو حوار فلسفي تشكيلي يجمع بين الفكر واللمس، بين النظرية والتطبيق، وبين العقل والوجدان.
عادل بدر كصوت عالمي للنحت المصري
من خلال مشاركته في “حالة مصرية”، يكرّس بدر مكانته كأحد أبرز الأصوات النحتية في العالم العربي، بل وكصوت عالمي قادر على المساهمة في خطاب النحت الدولي. أعماله تؤكد أن الفن ليس مجرد تعبير محلي، بل هو لغة كونية تتجاوز الحدود السياسية والجغرافية.
هنا يظهر إرث مصر الحضاري ممتداً من فنون النحت الفرعوني إلى الحاضر، في صورة معاصرة تؤكد أن الفنان المصري لا يزال يحمل القدرة على صياغة خطاب بصري عالمي، متجذر في الثقافة المحلية ومفتوح على العالم.
ما بعد “حالة مصرية”: نحو مشهد نحتي جديد
النقاد الذين تابعوا أعمال بدر في هذا المعرض أجمعوا على أن مشاركته لم تكن مجرد عرض لأعمال نحتية، بل بيان فني يحدد معالم مسار جديد في النحت المصري. فمن خلال أعماله، يدعو بدر إلى إعادة التفكير في الخامة كأداة معرفية، وفي النحت كمساحة فلسفية للحوار الإنساني.
وختاما نؤكد ان د عادل بدر لا يصنع منحوتات فقط، بل يبني عوالم فكرية مشبعة بالذاكرة والخبرة الإنسانية. أعماله في “حالة مصرية” أثبتت أنه واحد من قلة قليلة قادرة على تحويل النحت إلى قصيدة فلسفية ثلاثية الأبعاد، حيث الخامة تنطق، والسطح يفكر، والمادة تتأمل.
إنه صوت عالمي جديد للنحت المصري، لا يقل أهمية عن إرث أسلافه الذين خلّدوا مصر في ذاكرة الفن الإنساني عبر العصور.