منوعات

ليلى العياري… ألوان تُصلّي للإنسان قبل أن تُصلّي على القماش

 

كتب عزت اشرف 

في عصرٍ تكثر فيه الكلمات وتُذبل المعاني، تشرق يد ترسم النور من الألم وتحوّله إلى حياة. تلك هي ليلى العياري الفنانة التشكيلية التونسية الموهوبة ، التي لا ترسم لتُزيّن الجدران، بل لتُحرّك القلوب، وتفتح لنا أبوابًا إلى ما وراء اللون.
من لوحتها الأولى التي صاغتها بجرح الفقد، إلى لوحاتها الراهنة التي تشهد على أن الإبداع لا يولد من فراغ، بل من عمق الوجدان، حكايتها هي حكاية نورٍ في عالمٍ يئنّ من الظلال.

في هذا الحوار، نغوص معها في بداياتها، نجرب معها الألم والشفاء، نتأمل معها في علاقتها بالمكان، بالذكريات، وباللون — لنصل إلى أن اللوحة عندها ليست مجرد شكل، بل صلاة تُرفع إلى الإنسان قبل أن تُرسم على القماش.

البذرة الأولى: الحزن يتحوّل إلى لون

منذ أن طلب منك ابن شقيقك أن ترسميه، كأنكِ اكتشفتِ كائنًا من الحزن يتحداكِ أن تمنحيه حياة جديدة على القماش.

«قبل أن يرحل بشهرين فقط، قال لي: “ارسمني وعلّقي صورتي مثل المرحوم بابا …” كنت قد ابتعدت عن الرسم، لكن طلبه لمس أعماقي.
أطلقت على تلك اللوحة «قُرّة عيني»، أولى لوحاتي، مليئة بالدمع والضوء في آن واحد.
أضحك أحيانًا مع ضحكته المرسومة، وأحادث الآفاق في نظرة عينيه.
نعم، الحزن كان البداية، لكنه لم يقتلني؛ بل فتح نافذة نحو الخلق. الألم تحوّل إلى لون، إلى حياة جديدة.»


اللحظة الأولى في دار الثقافة

حينما اخترقت الريشة قماشك الأبيض لأول مرة في دار الثقافة باب سويقة عام 2012، ما الذي كان ينبض في داخلك؟

«أتذكر يومها مزيجًا من الخشية والفرح. شعرت أنني أخطو على حافة حلمٍ طويل.
أستاذي مراد شجعني، وقال: “تمسكي بحلمك مهما كان الثمن”.
منذ تلك اللحظة، لم أعد أرى الرسم كترف بل كقدر مكتوب.»


الذكرى والوعد

عندما تنظرين اليوم إلى تلك اللوحة الأولى، ماذا ترى عينك؟

«أرى الذكرى، الوعد، والجرح.
هي جزء مني، تتنفس وجع القلب. لكنها أيضًا شهادة أن الجمال يمكن أن يولد من الفقد، وأن الفن يقلب الممات إلى حضور دائم.»


الفنّ كعلاج

هل تحولتِ بالفعل إلى من تجعل من اللوحة وسيلة للشفاء؟

«بالطبع. الرسم لي صلاة داخلية.
كل ضربات الفرشاة هي زفرة، وكل لون هو نبضة نجاة.
حين أرسم، أنسَ العالم وأستعيد توازني تدريجيًا.»


الفنّ والضمير

مشاركتك في مؤتمر «سنُصلّي في القدس» حيث خصّصتِ العائد لدعم فلسطين — كيف ترى دور الفن في التأريخ للقضايا الإنسانية؟

«الفن الحقيقي لا يمكن أن يغمض عينيه عن الألم.
الفنان مسؤول أن يوقظ الضمائر، أن يقول: الجمال ليس غاية بحدِّ ذاته، بل وسيلة للوعي.
لوحاتي عن فلسطين ليست أرضًا بعيدة، بل وجعًا قريبًا يذكرني بأن الانكسار ليس حالة خاصة، بل حالة إنسانية.»


الإنسان قبل الرمز

رغم البوح بالتجريد والرمزية، لوحاتك تحمل دفئًا محسوسًا — لماذا تركّزين على الوجدان؟

«نادرًا ما ألتجئ إلى التجريد الخالص. أقرب إلى السريالية والواقعية لأنهما أقرب إلى قلبي.
إن لم تلامس اللوحة إنسانًا في داخله، فهي لم تنجح بعد.
النجاح الحقيقي أن تثير اللوحة صدى في القلوب، أن تولّد قراءات متعددة من صدقٍ واحد.»


الريشة والموهبة

كيف تختارين موضوع لوحتك؟ هل الفكر يقود الريشة أم العكس؟

«اللوحة تشبه الوقوع في الحب: حين تحب، تنسى كل شيء غيره.
الريشة تمضي بخطٍ ذاتي قد لا أعيه، أحيانًا تولّد مفاجآت على الورق أو الجدار أو الكرتون.
ليست كل اللوحات مُخططة — بعضها يولد من ومضة، من نبضة قلب.»


المكان كلوحة حيّة

كيف تنظرين إلى المكان في تجربتك؟ تونس القديمة تشكّل لك ماذا؟

«عندما أُلهَم، لا أنتظر المكان المثالي. أُجسده في الشارع، في الزقاق، في الحواري…
المكان ليس خلفية، بل جزء من اللوحة. تونس القديمة لوحة مفتوحة على الزمن، ألوان، رائحة، الناس، حكايات… كل زاوية فيها تستحق أن تُرسم.»


اللون والذاكرة الشعبية

في معارض مثل «ألوان المدينة»، يظهر حضور التراث بوضوح — كيف تدمجين بينهما؟

«اللون عندي يحمل ذاكرة الناس والمكان.
أمزج القديم بالجديد لأحيي الموروث بصيغة معاصرة.
الفن عندي ليس حفظًا للماضي، بل أن أعيده للحياة من جديد.»


العيش داخل اللوحات

هل تشعرين أنك تعيشين حياة مختلفة في كل لوحة؟

«نعم، في كل عمل أعيش كطفلة، كأمّ، كعاشقة، كمقاتلة…
الألوان فتحت أمامي حياة أوسع من جسدي.
أرى العالم بعين القلب، لا مجرد النظر.»


الامتنان والحياة

كيف تنظرين إلى الوجود من خلال فنك؟

«أنا متصالحة مع الرسم لأنه تأمل في عظمة الخلق.
لا شيء يتكرر: الملامح، النظرة، الضحكة…
أحيانًا يُطلب مني أن أرسم حبيبًا أو شخصًا رحل، فنحن لا نُعيد الموتى، لكننا نعيد الابتسامة للأحياء.
الفن هنا امتنان للحياة بكل ما فيها من نور وظلال.»


الطفلة الداخلية

كيف تحافظين على البراءة وروح الطفولة وسط ضغوط الحياة؟

«ما زلت أعيش بين الأطفال، أتعلم منهم البساطة والعفوية.
الطفل في داخلي سر ألواني، والريشة لا تعرف العمر.»


أثر لا يموت

عندما ترحلين، ماذا تَرَكِين في لوحاتك؟

«في كل لوحة أترك شيئًا مني لا يعود.
ربما هذا هو معنى الخلود — أن تبقى قطعة من روحك معلّقة في أنظار من ينظرون إلى ألواني بعد غيابي.»


كلمة أخيرة

«شكراً على الأسئلة التي لامست قلبي.
هذا الحوار كان مساحة صادقة لأرتشف من داخلي إلى القلم.
الفن عندي ليس مهنة بل حياة أتنفسها بالحب والضوء.
وكل لون أرسمه هو شكرٌ جديد لنعمة الإحساس بالجمال.»

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى