منوعات

د.وليد محمود ابو كامل يكتب : كم أنت عظيم يا أبي

 

بقلم: د. وليد محمود أبو كامل
دكتوراه في القانون – محلل سياسي

 

في كل مرة أحاول أن أكتب عنك، يا والدي، أجد الكلمات تتراجع خجلاً أمام قامتك الشامخة، ويبهت الحبر في عروقي قبل أن يخط أول الحروف. كيف يمكن للابن أن يصف نبعًا شرب منه الحبَّ والكرامة والعزة؟ وكيف يمكن للكلمات أن تفي إنسانًا عاش عمره كله ليمنح غيره الحياة الكريمة والطمأنينة والقدوة؟
أنا اليوم لا أكتب عن رجلٍ عادي، بل عن أبٍ استثنائي، عن **الحاج محمود أبو كامل**، ابن **قرية السدس بديرب نجم – الشرقية**، ومن قبل نجم الصعيد الاصيل الذي كان ولا يزال مدرسة في الصبر، ومثالًا في العطاء، ووجهًا يفيض بالسكينة كضوء الفجر فوق الحقول.
### الأب الذي كان وطنًا
في كل بيت هناك أب، لكن في بيتي كان أبي هو **الوطن كله**.
حين كنا صغارًا، لم نكن ندرك أن وقاره وصمته الطويل كانا يحملان في طياتهما حكمة الأجيال. كنا نراه يسعى في الأرض في صمت، لا يرفع صوته، ولا يشكو، ولا يتوقف عن العمل. واليوم فقط أدرك أن تلك الخطوات التي كان يقطعها في الحقول والطرقات، كانت معارك حياة يخوضها نيابة عنّا جميعًا.

لقد علّمني والدي أن **الرجولة ليست صخبًا ولا ادعاءً**، بل سلوك متزن وإيمان بالقدر وصبر على الشدائد. علّمني أن الكلمة الطيبة ترفع مقام صاحبها، وأن الرزق بيد الله، وأن الكرامة رأس مال الإنسان.

دروس في الصمت والعمل

كان أبي يؤمن أن الكلمة لا قيمـة لها إن لم يسبقها الفعل. لم يكن خطيبًا ولا متحدثًا بارعًا، لكنه كان يملك بلاغة الموقف، وحكمة القرار، ونقاء القلب.
كم من مرة رأيته يتعب طوال النهار، ولا يشتكي. كنت أظنها قوة، حتى كبرت وعرفت أنها **محبة صامتة** لأبنائه، تلك المحبة التي لا تُقال بل تُعاش.

منه تعلمت أن لا شيء في الحياة يُنال بالسهولة، وأن الجد والاجتهاد هما السبيل الوحيد لأن يرفع الله شأن الإنسان. كان يقول لي دائمًا:
“يا بني، اعمل بضميرك ولا تنتظر الشكر من أحد، فالله يرى، وهو وحده يجزي.”
وكم كانت تلك الكلمات نبراسًا لي في دراستي وفي مهنتي وفي حياتي كلها.

### من الفلاح البسيط تُولد القيم الكبيرة

لم يكن أبي غنيًا بالمال، لكنه كان **أغنى الناس بالرضا**.
في ملامحه ترى الأرض، وفي يديه ترى الشقاء المبارك الذي يجعل من العرق وسامًا لا يُشترى.
لقد خرج من رحم الريف المصري الطيب، من الصعيد ثم قرية **السدس** التي أنجبت رجالًا يعرفون معنى الكفاح والكرامة. كان وجهه مرآة لتلك الأرض الطيبة، وابتسامته ظل نخلة في يوم قائظ.
علّمني أبي أن الأصل ليس في المنصب ولا اللقب، بل في **الصدق والنزاهة وحب الناس**. وربما كان هذا الدرس هو الذي رسم طريقي الأكاديمي والمهني، لأحمل في قلبي إرثه النقيّ في كل خطوة أخطوها في حياتي العلمية والعملية.
### تربية على الصدق والعدل

منه تعلمت أن العدل قيمة لا تتجزأ، وأن الكلمة أمانة.
كلما جلست أمامه وأنا أستمع لحكاياته القديمة، كنت أتعلم أكثر مما تعلمت في سنوات الدراسة.
كان يحكي عن الحياة لا كمَن يروي قصصًا، بل كمن **يُسلّم وصايا السماء للأرض**.
قال لي ذات مرة:
“إذا أردت أن يعرف الناس مقامك، فكن عادلًا، فالظلم يسقط الرجال ولو لبسوا الحرير.”
تلك الجملة لم تفارقني، وهي التي جعلتني أختار طريق القانون، إيمانًا بأن العدالة ليست وظيفة بل رسالة.
### الأب.. ذاكرة الوطن الصغير

حين أتأمل اليوم ملامح أبي، أرى في وجهه ذاكرة جيلٍ كاملٍ من أبناء الريف الذين صنعوا مجد هذا الوطن بصبرهم وشرفهم.
هو من أولئك الرجال الذين عاشوا بلا ضجيج، لكنهم تركوا خلفهم أثرًا لا يُمحى.
تراه في صلاته المتأنية، في دعائه الصادق لأولاده، في سعيه الحثيث ليؤمّن لنا مستقبلًا أفضل.
تراه في البساطة التي تغلف كل تفاصيله، وفي الكرامة التي لا تفارقه مهما ضاقت الأيام.
### أبى العزيز.. لك الدعاء ولنا الفخر

يا أبي الحبيب،
لو قيل لي يوماً: من هو قدوتك الأولى؟ لقلت بلا تردد: **أنت**.
لقد كنتَ ظلي في شمس الحياة، وسندي في صعابها، وملاذي في كل لحظة حيرة أو تعب.
ما زالت وصاياك ترنّ في أذني، وما زالت نظرتك الهادئة حين تراني أحاول أن أكون أفضل، تمنحني القوة لأكمل الطريق.
أدعو الله أن يمدك بالصحة والعافية وطول العمر، وأن يظل قلبك النقي منارة لنا جميعًا.
ليس كل الرجال آباء، وليس كل الآباء رجالًا.
لكن أبي كان وما زال **الرجل الذي اختصر في سيرته معنى الأبوة والرجولة والكرامة**.
في زمنٍ تتبدّل فيه القيم وتتغيّر الوجوه، يظل الحاج محمود أبو كامل شاهدًا حيًّا على أن القيم الحقيقية لا تموت، وأن من زرع الحب حصد الوفاء.
سلامٌ على أبي، وعلى كل أبٍ يشبهه في صمته النبيل وعطائه الصادق.
سلامٌ على يدٍ علّمتني كيف أكتب وأزرع وأحب.
سلامٌ على قلبٍ لا يزال دعاؤه يحميني كل صباح.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى