تاتا .. من اتوبيسات العتبة إلى إمبراطورية الصناعة

بقلم / د. عبد العزيز الصويغ
في شوارع القاهرة القديمة خلال عشرينيات القرن الماضي، كان اسم “تاتا” يتردد كإجابة يومية لسؤال مألوف: “كيف أصل إلى العتبة؟”.
وكانت الإجابة البسيطة والمباشرة: “اركب تاتا خطّ العتبة”.
كانت أتوبيسات “تاتا” الهندية، التي انطلقت من حي العتبة الشهير، رمزًا للتنقل في قلب العاصمة المصرية، لدرجة أن الاسم التصق بالذاكرة الجمعية. ومع الوقت، ومع حاجة الأمهات إلى كلمة تشجيع لأطفالهن في خطواتهم الأولى، تحولت “تاتا” في اللهجة المصرية الدارجة إلى مرادف للخطوة.. “تاتا خطي العتبة.. تاتا وحدة وحدة”.
لكن وراء هذا الاسم المألوف تكمن قصة رجل حوّل عائلته إلى رمز للصناعة العالمية: راتان تاتا، الذي رحل في أكتوبر 2024 عن عمر 86 عامًا، تاركًا إرثًا إنسانيًا وصناعيًا لا يُضاهى.
من “تاتا” العتبة إلى تاتا العالم:
وُلد راتان تاتا عام 1937 في عائلة أسست مجموعة تاتا عام 1868. تربى على قيم العمل الجاد والمسؤولية الاجتماعية، ودرس الهندسة المعمارية في الولايات المتحدة، بدأ من الوظائف الدنيا قبل أن يتولى قيادة المجموعة في عام 1991. في فترة انفتاح الاقتصاد الهندي، قاد راتان تاتا تحولًا جذريًا جعل من “تاتا” واحدة من أكبر التكتلات الصناعية في العالم:
التوسع العالمي: في 2008، أذهل العالم بشراء علامتي جاغوار ولاند روفر من فورد بقيمة 2.3 مليار دولار، ليثبت أن شركة هندية يمكن أن تقود علامات فاخرة. كما استحوذت تاتا ستيل على كوروس الأوروبية، معززة مكانة الهند في صناعة الصلب.
الابتكار المحلي: لم ينسَ مواطنيه، فأطلق سيارة “تاتا نانو” عام 2009 بسعر حوالي 2000 دولار، محققًا حلم الطبقة المتوسطة الهندية بامتلاك سيارة.
الأخلاقيات والثقة: في زمن الفضائح المالية، حافظت مجموعة تاتا على سمعتها كرمز للشفافية والجودة، مما جعل اسمها مرادفًا للثقة عالميًا.
الإرث الحقيقي: الثروة التي لا تورث
رحل راتان تاتا دون ورثة مباشرين، لكن إرثه الحقيقي يتجاوز الثروة المادية. مجموعة تاتا، التي تضم أكثر من 100 شركة في الصلب، السيارات، البرمجيات (TCS)، والطاقة، تحقق إيرادات سنوية تتجاوز 128 مليار دولار وتوظف أكثر من 935,000 شخص (حسب تقديرات 2023).
الأعمال الخيرية: عبر صندوق أبناء تاتا، تذهب أرباح الشركة لدعم التعليم، الصحة، والثقافة. كل سيارة جاغوار أو خدمة TCS تُسهم في أعمال خيرية.
النموذج القيادي: ترك راتان تاتا نموذجًا للقائد المتواضع الذي يضع الإنسان والوطن في قلب استراتيجيته.
عبر للأفراد والدول: النجاح يتطلب خطوات مدروسة تبدأ من الأرضية وترتقي برؤية استراتيجية. وللدول، بناء علامات تجارية وطنية تنافس عالميًا وربط الثروة بالتنمية المجتمعية هو سبيل الإرث الدائم.
خاتمة: تاتا.. الخطوة التي لا تنتهي
“تاتا”… لم تعد مجرد اسم على واجهة أتوبيس في القاهرة العتيقة، ولم تعد مجرد كلمة تهمس بها أم لطفلها. لقد تحولت إلى رمز للتقدم، تمامًا كما أصبح رمزًا عالميًا للطموح والمسؤولية الاجتماعية. إرث راتان تاتا يدعونا للتفكير: كيف يمكن لكل منا أن يترك أثرًا إيجابيًا في مجتمعه، سواء بثروة مادية أو بفكرة ملهمة؟
يخطو الطفل أولى خطواته “تاتا تاتا” .. ولكن إلى أين؟ الإجابة عند راتان تاتا: إلى حيث لا حدود للطموح، وإلى حيث يتحول اسم الإنسان إلى إرثٍ للإنسانية.