الديون المتعثرة.. بين التحايل والإعسار

د. عيد الله صادق دحلان
بتاريخ 11 مايو 2025م، كتبتُ مقالةً في جريدة المدينة، عن حجم القروض البنكيَّة الشخصيَّة المتعثِّرة في بنوك المملكة، حيث سلَّطتُ الضوء على تصاعد نسب التعثُّر؛ وأثرها على القطاع المصرفيِّ والاقتصاد الوطنيِّ بشكلٍ عام، واليوم، وبعد قراءتي القانونيَّة، ومتابعتي لعدد من القضايا المتعلِّقة بالديون، أجدُ من الضروريِّ التوقُّف عند جانب قانونيٍّ بالغ الأهميَّة، وهو الوضع القانونيُّ للمَدِين الذي يتعمَّد التهرُّب من سداد التزاماته الماليَّة، وما يترتَّب على ذلك من عواقب جسيمة.
إلَّا أنَّه من الطبيعيِّ أنْ يمرَّ بعض الأفراد، أو بعض رجال الأعمال بظروف ماليَّة طارئة؛ تحول دون قدرتهم على سداد التزاماتهم الماليَّة، غير أنَّ الفرق شاسع بين مَن يعلن تعثُّرَه ماليًّا وفق القنوات الرسميَّة، وبين مَن يختار التحايل والتهرُّب عبر وسائل غير مشروعة.
فالبعض يلجأ إلى إخفاء أصوله وممتلكاته إخفاءً صوريًّا، من خلال تسجيلها بأسماء أفراد عائلته، أو إدخالها ضمن محافظ وصناديق استثماريَّة ماليَّة، أو تحويلها إلى حصص في شركات خاصَّة؛ بهدف تحصينها من مطالبات البنوك والدَّائنِين الآخرين، وقد يعتقدُ هؤلاء أنَّ مثل هذه الممارسات تمنحهم حمايةً مؤقَّتةً، إلَّا أنَّها في جوهرها تمثِّل تحايلًا على الدَّائنِين؛ تضع مرتكبها تحت طائلة العقوبات النظاميَّة.
وفي المقابل، تتيح الأنظمة القانونيَّة السعوديَّة مخرجًا قانونيًّا وإنسانيًّا، يتمثَّل في الإعلان عن التعثُّر الماليِّ، وهو إجراءٌ يضمن للمَدِين الحماية من المطالبات غير المنصفة، وفي الوقت ذاته، يحفظ حقوق الدَّائنِين من خلال جدولٍ زمنيٍّ لتسوية الديون أو تصفيتها، وفق أصول نظاميَّة واضحة، مثل نظام إعادة التنظيم الماليِّ، والتسوية الواقية من الإفلاس، هذه الإجراءات تحفظ كرامة المَدِين، وتضمن حقوق الدَّائنِين ضمن إطار شفَّاف يخضع لرقابة القضاء.
إنَّ التحايل والتهرُّب من السداد، أو محاولة إخفاء الأموال بقصد الإضرار بالدَّائنين، لا يُعتبر مجرَّد تصرُّف غير أخلاقيٍّ فحسب، بل هو جريمة يُعاقب عليها النظامُ، فالأنظمة القانونيَّة في المملكة، خاصَّةً بعد التطوُّرات الأخيرة في نظام التَّنفيذ ونظام الإفلاس، تُشدِّد على معاقبة كلِّ مََن يثبت تورُّطه في إخفاء أمواله، أو الإضرار بالدَّائنِين بعرقلة وصولهم إلى حقوقهم.
وتتراوح العقوبات بين الحبس والغرامة الماليَّة، إضافةً إلى إدراج اسم المتعثِّر في القوائم السوداء لدى البنوك والشركات؛ ممَّا يُغلق أمامه فرص الحصول على التمويل، وممارسة الأعمال التجاريَّة مستقبلًا، وهذه النتيجة -في حدِّ ذاتها- كفيلةٌ بإنهاء أيِّ مسيرة تجاريَّة، أو مهنيَّة ناجحة.
ولمواجهة هذه التحدِّيات، يكون الحل الأكثر حكمةً هو الوضوح والشفافيَّة، واللجوء إلى الأنظمة القانونيَّة، وعلى رأسها إعلان التعثُّر في السداد، وطلب جدولة الديون، أو التوصل إلى تسويات عادلة، فهذا الإجراء يضمن للمَدِين فرصة لإعادة تنظيم التزاماته، أو تصفية أصوله بطريقة تحفظ كرامته، وتمنحه فرصةً جديدةً للانطلاق دون تهرُّب أو تحايل، ولعلَّ ما يجهله البعض أنَّ العديد من المؤسَّسات الماليَّة في المملكة أصبحت أكثر مرونةً وتفهُّمًا لحالات التعثُّر، إذا ما قُدِّمت بصدقٍ ووضوحٍ.
وأخيرًا، أودُّ أنْ أوجِّه نصيحةً لرجال الأعمال الذين يمرُّون بضائقةٍ ماليَّة أو تعثُّرٍ في سداد التزاماتهم، أنَّ الوضوح والشفافيَّة هما الحل الأمثل، فالهروب والتحايل لن يجلب سوى المزيد من الأزمات، بدءًا من فقدان الثقة في السوق، وصولًا إلى السجن، وما يتبعه من أضرار لا تُعوَّض، بينما الاعتراف بالمشكلة، والسَّعي لحلِّها قانونيًّا، يفتح الطريق لإعادة بناء السُّمعة، واستعادة الثِّقة.
ومن المهم أيضًا الإشارة إلى مسؤوليَّة شركات الصناديق الاستثماريَّة التي تتلقَّى أموالًا، (عقارات وأسهم)، من رجال أعمال أو مستثمرين متعثِّرين، وعلى هذه الشركات أنْ تتحقَّق بدقَّة من أصل الأموال ومصادرها، وأنْ تضمن عدم استخدامها كوسيلة لإخفاء الأصول، أو التحايل على الدَّائنِين، فالالتزام بالشفافيَّة، وحوكمة الاستثمارات لا يحمي الصندوق فقط، بل يسهم في ترسيخ الثِّقة في بيئة الاستثمار، ويُعزِّز سمعة السوق الماليَّة.
إنَّ الاقتصاد الوطنيَّ يقوم على الثِّقة، التي لا تُشترَى، ولا تُعوَّض إذا فُقدتْ، لذا، فإنَّ الشجاعة في مواجهة الحقيقة، والاحتكام إلى القنوات القانونية، هو السبيل الأمثل لتجاوز الأزمات المالية، أفضل بكثير من المراوغة التي قد تنتهي بأبواب السجون.
ولا يفوتني أنْ أشيد بجهود المملكة المتميِّزة في تطوير الأنظمة القانونيَّة والماليَّة والقضائيَّة، وعلى رأسها نظام التَّنفيذ والإفلاس، بما يعكس التزامها بتعزيز الشفافيَّة والعدالة، وحماية الحقوق، هذه الإصلاحات التي أسهمت في تمكين بيئة استثماريَّة آمنة وجاذبة، تتماشى مع مستهدَفات رُؤية المملكة 2030، في بناء اقتصادٍ قويٍّ ومُستدام.