يشهد قطاع النقل في المملكة، تحوُّلًا تاريخيًّا مع إطلاق مشروعات إستراتيجيَّة، تهدف إلى ربط المدن الكُبْرى في المملكة – الدمام، والرياض، وجدَّة- عبر شبكة سكك حديديَّة حديثة، تربط شرق المملكة بغربها عبر العاصمة، لتخلق جسرًا بريًّا يختصر المسافات، ويرفع كفاءة النقل، ويُحدث نقلة نوعيَّة في التنمية العمرانيَّة والاقتصاديَّة، ولا سيَّما في القرى الواقعة على امتداد هذا المسار، فهذا المشروع العملاق، المعروف بجسر السكك الحديديَّة البريِّ (Saudi Landbridge)، يُعدُّ من كُبْرى شبكات السكك الحديديَّة في الشرق الأوسط، حيث يربط البحر الأحمر بالخليج العربيِّ، مرورًا بالرياض، عبر خطٍّ حديديٍّ طوله نحو 1500 كيلومترٍ، وبسرعات تشغيليَّة للقطارات تصل إلى 300 كيلومترٍ في الساعة، بما يقلل زمن الرِّحلات بين المدن الثَّلاث إلى مستوى غير مسبوق، بحيث يصبح الانتقال من جدَّة إلى الرياض خلال أقل من أربع ساعات، ومنها إلى الدمام بأقل من ساعة ونصف؛ ممَّا يُعزِّز من سهولة التنقُّل، والخدمات اللوجستيَّة بين مناطق المملكة.
ويُعتبر هذا المشروع أكثر من مجرَّد خط نقل، فهو محور متكامل، يُعيد تشكيل الخريطة الاقتصاديَّة للمملكة، إذ يُسهم في تعزيز التبادل التجاريِّ بين الشرق والغرب، ويرفع كفاءة نقل البضائع بشكلٍ يُقلِّل الاعتماد على الشاحنات، ويخفِّف الضغط على الطرق البريَّة، ويزيد من سرعة الوصول للأسواق؛ ممَّا يدفع عجلة الاستثمار والتنمية الصناعيَّة، ويُعدُّ أحد أهم المشروعات الوطنيَّة ذات الأثر المباشر في دعم مستهدَفات رُؤية 2030، ورفع تصنيف المملكة كمركزٍ لوجستيٍّ عالميٍّ، وخفض التكاليف التشغيليَّة المرتبطة بالنقل التقليديِّ.
كما سيُسهم في تسهيل حركة الحجَّاج والمعتمرِينَ بشكلٍ غير مسبوق، عبر خفض زمن التنقُّل بين موانئ المملكة، ومدنها الرئيسة؛ ممَّا يُعزِّز جاهزيَّة منظومة الحجِّ والعُمرةِ، ويرفع كفاءة خدمة ملايين الزوَّار سنويًّا، وفق أعلى المعايير اللوجستيَّة والأمنيَّة.
ويمتد أثر هذا المشروع إلى البُعد الاجتماعيِّ والعمرانيِّ بشكل كبير، فوجود محطَّات السكك الحديديَّة يُعدُّ من أهم أدوات التنمية الإقليميَّة، كونها تخلق مراكزَ عمرانيَّةً جديدةً حول المحطَّات، ضمن نطاق القرى والهجر الصغيرة، وبناء مراكز تجاريَّة، ومرافق عامَّة، ومساكن جديدة، ويمنح هذه المناطق فرصةً للنموِّ بعد سنوات من الاعتماد على الطرق التقليديَّة، ومع توفر خدمة القطارات بشكل سريع ومنتظم، تصبح إمكانيَّة السكن في قرى قريبة، والانتقال للعمل، أو الدراسة في المدن الكُبْرى أمرًا أكثرَ سهولة وأقلَّ تكلفة، ما يساعد على توزيع الكثافة السكانيَّة، ويخفِّف الضغط العمرانيِّ عن المدن الرئيسة.
إنَّ القرى الواقعة على امتداد المسار الجديد بين جدَّة والرِّياض، أو على خط الدمام – الرياض، ستكون الأكثر استفادة من هذا المشروع؛ إذ ستشهد خلال السنوات المقبلة حركةً اقتصاديَّة ملحوظة؛ نتيجة ظهور محطَّات انطلاق ووصول تخدم آلاف المسافرين يوميًّا، ما يعني فرص جديدة لافتتاح المتاجر، والمقاهي، والفنادق الصغيرة، والخدمات المساندة، إضافة إلى تحسن البنية التحتيَّة في هذه المواقع مع إنشاء الطرق، ومواقف السيَّارات، ومناطق الخدمات المصاحبة لمحطَّات القطارات، وخلق فرص عمل في تلك القرى، هذا التحوُّل يُغيِّر شكل هذه القرى من نقاط عبور إلى مراكز خدمة تنبض بالحركة والنشاط، ويجعلها جزءًا أساسًا من منظومة النموِّ الوطنيِّ، وتشير التجارب العالميَّة إلى أنَّ 60% من التنمية العمرانيَّة الحديثة في الكثير من الدول، قامت حول شبكة القطارات.
كما يشكِّل المشروع نقلةً نوعيَّةً في مستهدَفات الاستدامة البيئيَّة، إذ توفر القطارات وسيلة نقل أكثر كفاءة من السيَّارات والطَّائرات، من حيث استهلاك الوقود، وتقليل الانبعاثات الكربونيَّة، وهذا ما ينسجم مع مبادرات ومستهدَفات المملكة في حماية البيئة، وخفض الانبعاثات، ضمن رُؤية السعوديَّة 2030، وتؤكِّد دراسات النقل العالميَّة أنَّ كل قطار واحد يمكن أنْ يُقلِّل من مئات الشاحنات على الطرق يوميًّا؛ ممَّا ينعكس على خفض استهلاك الوقود، وتخفيف الازدحام، وتقليل الحوادث، وتحسين جودة الحياة.
ولا يمكن الحديث عن هذا المشروع التنمويِّ الضَّخم دون الإشادة بالكفاءات الوطنيَّة التي تقف خلفه، وبالجهات الحكوميَّة، والشركات العالميَّة التي تعمل على تحويل هذا الحلم إلى واقع، عبر جهود جبَّارة في التخطيط، والتنفيذ، والدعم، بدءًا من وزارة النقل والخدمات اللوجستيَّة، مرورًا بشركة الخطوط الحديديَّة السعوديَّة «سار»، ووصولًا إلى الشركاء الهندسيِّين والاستشاريِّين من الداخل والخارج، فهذه المشروعات لا تُبنَى فقط بالحديد والخرسانة، بل تُصنع أيضًا برُؤية قياديَّة حكيمة، وإدارة مؤسسيَّة متميِّزة قادرة على بناء مستقبل أكثر اتِّصالًا وازدهارًا.
إن مشروع ربط الدمام – الرياض – جدة بالسكك الحديدية، ليس مجرد خطوط حديدية تمتد عبر الصحراء، بل هي شرايين حياة جديدة تمتد عبر الوطن؛ لنقل المملكة إلى مرحلة أكثر تقدمًا في مجال النقل الحديث والتنمية المستدامة.