رأي

المملكة السعودية لا تنتظر المستقبل.. بل تصنعه

بقلم / د. عبدالله صادق دحلان

تُشكِّل زيارة صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان، ولي عهد المملكة، محطَّة مفصليَّة في المشهدَين السياسيِّ والاقتصاديِّ العالميِّ، إذ يُنظر إلى المملكة اليوم كأقوى شريكٍ اقتصاديٍّ، وأهم حليفٍ إستراتيجيٍّ للولايات المتحدة الأمريكيَّة. وقد حظيت زيارة سمو ولي العهد إلى البيت الأبيض، الأسبوع الماضي، باهتمام غير مسبوق؛ لما حملته من رسائل عميقة، ورؤى إستراتيجيَّة، واتفاقيَّات ترسم ملامح مرحلة جديدة من الشَّراكة بين البلدين، ليس فقط لأنَّها تأتي في وقتٍ يشهدُ فيه العالم تحوُّلات متسارعة، بل لأنَّها تعكس قدرة المملكة على صياغة مستقبلها بجرأة، وعلى إعادة تعريف دورها في الاقتصاد العالميِّ، من خلال بناء جسور تعاون ممتدة مع القوى الدوليَّة، هذه الزيارة ليست حدثًا بروتوكوليًّا عابرًا، بل خطوة إستراتيجيَّة تحمل في طيَّاتها تأثيرات عميقة على مستقبل المملكة، وعلى موقعها كقوَّة اقتصاديَّة وسياسيَّة قادرة على قيادة تحوُّلات عالميَّة، لا تقف عند حدودها الجغرافيَّة.

لقد رسَّخت الزيارة مفهومًا جديدًا للعلاقات الدوليَّة، مبنيًّا على الشراكات المتوازنة، والمبادرات النوعيَّة، وأصبحت المملكة اليوم تمارس دور الطَّرف المُبادر الذي ينتقل من موقع المستفيد من الخبرات العالميَّة؛ إلى موقع المصنِّع للفرص، وصانع التحالفات، وخلال الزيارة ظهرت رُؤية واضحة عن كيفيَّة توظيف العلاقات الثنائيَّة لخلق مسار جديد من التكامل الاقتصاديِّ، القائم على تبادل المعرفة والخبرات، وتطوير الابتكار، ونقل التقنيات المتقدِّمة؛ لتتحوَّل المملكة إلى مركزٍ عالميٍّ للتطوير الصناعيِّ والرقميِّ، وإلى منصَّة تجمع الشرق بالغرب، وتُعيد تشكيل مسارات التجارة الدوليَّة.

كما تميَّزت الزيارة بتوقيع عددٍ من اتفاقيَّات التعاون، ومذكرات التفاهم، كان أبرزها اتفاقيَّة الدفاع الإستراتيجيَّة، ولا تقتصر قيمة هذه الاتفاقيَّات على أطرها الاقتصاديَّة فحسب، بل تمتد إلى تشكيل بنية جديدة للنفوذ الدوليِّ للمملكة، وإلى تعزيز حضورها في مجالات الطاقة الجديدة، والتقنيات الذكيَّة، والصناعات المتقدِّمة، فالاستثمار في العلاقات الدوليَّة ليس مجرَّد توقيع وثائق، بل هو ترجمة لرُؤية بعيدة المدى، تسعى المملكة من خلالها إلى بناء اقتصاد متنوِّع، قادر على مواجهة التحدِّيات، ومؤهَّل لقيادة التطوُّر في قطاعات حيويَّة كالذَّكاء الاصطناعيِّ، والطاقة النوويَّة المدنيَّة، والخدمات اللوجستيَّة الحديثة، والاقتصاد الرقميِّ.

لقد وضعت المملكة، من خلال هذه الشراكات نفسها في قلب الاقتصاد العالميِّ، وأرسلت رسالةً واضحةً مفادها أنَّ المملكة لم تعدْ مجرَّد دولة مستقبِلة للاستثمارات، بل أصبحت دولةً مصدِّرةً للفُرص، ومبادِرةً في صياغة اتجاهات التنمية العالميَّة.

كما سيكون لهذه الاتفاقيَّات تأثيرٌ مباشرٌ على الشَّباب السعوديِّ، وبناء كوادر وطنيَّة مؤهَّلة قادرة على قيادة التنمية المستقبليَّة، حيث سيجدُونَ أنفسهم أمام فرص متميِّزة؛ للدخول في مشروعات عالميَّة، وتلقِّي تدريب متخصص، والانضمام إلى مراكز بحثيَّة وتطوير دوليَّة، وفتح آفاق جديدة للوظائف الحديثة.

وتأتي هذه الزيارة -أيضًا- تأكيدًا على مكانة المملكة الجيو-اقتصادية، فهي تمتلكُ موقعًا إستراتيجيًّا، وممرًّا لوجستيًّا أساسًا للتجارة العالميَّة، وعبر الاستفادة من هذا الموقع الفريد، تسعى المملكة إلى تحويله إلى قوَّة اقتصاديَّة مؤثِّرة من خلال إنشاء شراكات في مجالات النقل، والخدمات اللوجستيَّة، والموانئ، والبنى التحتيَّة العابرة للحدود، بما يرسِّخ دورها كقوَّة مؤثِّرة في حركة الاقتصاد العالميِّ.

أمَّا على المستوى السياسيِّ والدبلوماسيِّ، فقد أكَّدت هذه الزيارة قدرة المملكة على لعب دور قيادي إقليمي ودولي، وعلى توظيف علاقاتها في تعزيز استقرار المنطقة، ودعم التعاون الدوليِّ في مواجهة التحدِّيات المشتركة، وتُعدُّ هذه المكانة امتدادًا لرُؤية شاملةٍ ترى أنَّ بناء النفوذ العالميِّ يتطلَّب قوَّة اقتصاديَّة متينة، وسياسة خارجيَّة متوازنة، وشراكات إستراتيجيَّة طويلة الأمد.

هذه الزيارة رسمت ملامح مرحلة جديدة من الحضور السعوديِّ العالميِّ، مرحلة تقوم على المبادرة، لا التردُّد، وعلى الاستثمار في المستقبل، لا الاكتفاء بإدارة الحاضر، ومع كلِّ اتفاقيَّة تُوقَّع، وكل مشروع يُطلَق، تتقدَّم المملكة خطوةً جديدةً نحو تحقيق رُؤيتها؛ في أنْ تكون قوَّة عالميَّة مؤثِّرة، وصاحبة قرار وابتكار في عالم يتغيَّر سريعًا.

إنَّ المملكة اليوم لا تنتظر المستقبل، بل تصنعه، والزيارة وما تبعها من اتفاقيات ليست سوى دليل آخر على أنَّ المملكة بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده الأمين صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان -حفظهما الله- تمضي بثقة نحو الريادة العالميَّة، وتعيد رسم موقعها في خارطة العالم كدولة قادرة على قيادة مسارات التنمية، وصياغة مستقبل أكثر ازدهارًا واستدامة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى