

كتب عزت اشرف
تجمع الروائية العراقية ميسلون فاخر في مسيرتها بين دقة العلم ورهافة الإبداع؛ فهي الكيميائية التي استهوتها هندسة الأرواح قبل هندسة الجزيئات، لتقدم لنا مختبراً روائياً فريداً يُعيد صياغة الوجع الإنساني وتجلياته. في لقائنا معها، نغوص في فلسفة السرد التي تنتهجها لمقاربة مفاهيم الهوية والاغتراب، ونستكشف تلك العلاقة الملتبسة بوطنٍ لا يحضر إلا في صمت الذاكرة، لنكتشف كيف استطاعت ميسلون أن تجعل من الحرف جسراً للعبور من الخراب إلى ضفاف المعنى، ومن الانكسار إلى ذروة الانتصار الإنساني
درستِ الكيمياء، ثم عملتِ في مجال الأفلام الوثائقية، والآن أنتِ روائية. هل هناك رابط خفي بين هذه المسارات المختلفة، وهل الكيمياء، بفكرة تحويل العناصر، قد ألهمتْكِ بطريقة أو بأخرى، لتحويل الألم إلى نص أدبي؟
الكتابة بالنسبة لي تشبه الانصهار، حيث تذوب كل أشكال الفنون والمعارف في بوتقة واحدة لتصنع المعنى والجمال، لوحة إنسانية تتداخل فيها الألوان القادمة من كل تجربة عشتها أو تذوقتها؛ لذلك أشعر أن كل خطوة سلكتها، سواء في دراسة الكيمياء أو في العمل على الأفلام الوثائقية، كانت تمهيدًا غير مباشر للكتابة الروائية.
دراسة الكيمياء مثلًا، علمتني فكرة التحول؛ كيف يمكن أن تتبدل العناصر وتخلق من تفاعلها شيئًا جديدًا، هذه الفكرة سكنتني وصرت أراها في الحياة وفي الأدب أيضًا؛ كيف يتحول الألم إلى بصيرة، والخسارة إلى طاقة خلاقة، وكيف يمكن للكلمات أن تعيد تشكيل التجربة كما تعيد النار تشكيل المعادن. أما الفيلم الوثائقي فقد منحني عينًا تلتقط التفاصيل الصامتة في الوجوه والأماكن، وتسمع ما لا يقال في اللغة اليومية، علمني الإصغاء للواقع قبل الحكم عليه، والنظر إلى الإنسان كقصة تمشي على الأرض. لهذا حين أكتب أشعر أن كل تلك المسارات؛ الكيمياء، الصورة، والواقع، تلتقي في النص، وكأن الحياة كانت تهيِّئني منذ البداية لأمارس هذا الفعل السحري؛ تحويل التجربة الإنسانية، بكل ما فيها من فوضى وألم، إلى ضوء يسكن الحروف، إلى دفء يعيد للروح توازنها، وإلى جمال يرمم بالكلمة هشاشة الوجود ويرأب تصدُّعه.
هل يمكن أن نعدَّ السنوات الطويلة التي سبقت روايتكِ الأولى “رائحة الكافور” هي فترة “تخمير” للألم، وهل كانت الكتابة هي الملاذ الأخير بعد أن أغلقتِ أبواب الحلول المؤقتة التي تحدثتِ عنها؟
للألم رائحة معتَّقة حين يختلط الموت بالحياة، وكلما تقادم الألم، ازداد وضوحًا وإيذاءً حتى يصبح قادرًا على كشف جوهرنا الإنساني الأكثر نقاءً؛ فبمرور الزمن لا يتبخر الوجع، بل يتحول إلى مادة خام، إلى حس خفي نعيد من خلاله لمس ذواتنا ونقرأ عبره خرائطنا الداخلية بتفاصيلها الدقيقة. ربما السنوات الطويلة التي سبقت رواية “رائحة الكافور” كانت زمنًا تمهيديًّا ليس للألم وحده بل للتجربة كلها، كنت أعيش مرحلة نضج بطيء أراقب بها عالمي الخارجي، وأتلمس ملامح الإنسان في هشاشته وصمته ومقاومته العنيدة. ومع كل خيبة أو فقد، كنت أقترب أكثر من تلك اللحظة التي تصبح فيها الكتابة الملاذ الوحيد، لا بوصفها هربًا، بل كفعل إنقاذ وطريقة لتهذيب الفوضى التي حولي ومنحها معنى. عمومًا الكتابة في النهاية لم تكن قرارًا واعيًا بقدر ما كانت استجابة داخلية لنداءٍ خفيٍّ، لم أعد أستطيع تجاهل صوت الوجع حين يتحول إلى حكمة، ونداء السرد حيث تُروى القصص كي نبرأ من وجعها، وربما لهذا السبب أؤمن أن كل وجع نحمله في أعماقنا هو بذرة نصٍّ تنتظر موسمها، وأن الكتابة هي طريقة تتنفس بها الروح حين تضيق بها الحياة.
تتحدثين عن أن الأدب يتجنب البحث عن منتصر أو خاسر، وأن الجميع خاسرون في الحرب. لكن هل يمكن للأدب أن يكون، في حد ذاته، أداة للانتصار، ليس على الخصم، بل على الخراب الذي تزرعه الحروب، من خلال قدرته على استعادة إنسانية الفرد المهمش؟
الأدب ليس مجرد تسجيل للأحداث أو سرد للوقائع، بل هو فضاء مقاومة، مكان تهرع إليه الروح حين تنهار المدن وتختفي الأصوات. هناك وسط الحروف والكلمات، يمكن للإنسان أن يستعيد ما فقده: حريته، صوته، حتى قلبه. لا أحد يسأل هناك من انتصر أو خسر، كل ما يهم هو أن تبقى إنسانًا، أن تتلمس طرق النجاة وسط خراب لم تختره ولم تسهم في صناعته. في الأدب يمكن لكل المهمشين أن يجدوا أصواتهم المفقودة، ويمكن لكل الهاربين أن يبتدعوا قوارب نجاة تحملهم إلى ضفاف آمنة. الكلمات تعيد بناء الداخل حين ينهار العالم الخارجي، توقظ الأمل حين يستبد اليأس، وتزرع الحياة في صحراء الخراب. الأدب ليس مجرد فن، بل هو فعل مقاومة وانتصار على العدم، وعلى الحروب، وعلى كل ما يشوه روح الإنسان.
في رواياتكِ، تمنحين بطلاتكِ اسمين، أحدهما يظهر لاحقًا. هل هذا التعدد في الهُوية هو محاولة لترجمة الالتباس الذي تحدَّث عنه المفكر الفرنسي غوستاف لوبون، أو أنه إقرار بأن الهُوية ليست كيانًا واحدًا، بل هي مجموعة من الأرواح المشتتة التي تسعى للتصالح مع ذاتها؟**
إنها محاولة مستمرة لفهم الذات بين الظل والضوء، بين الاسم الذي نعرفه والاسم المختبئ خلف اسم آخر، أرواح تتقاطع خلف مرايا البحث عن الهُوية. هذه الأسماء ليست سوى بوابات تشبه المدن التي تتبدل أحياؤها كلما دخلت عليها التغييرات. حين أمنح بطلات رواياتي أكثر من اسم فليس ذلك من باب الصدفة، بل هو تعبير منسجم عن ازدواجية الهُوية؛ فالفرد، بحسب لوبون، ليس كيانًا واحدًا، بل مجموعة من الطبقات النفسية والاجتماعية والثقافية التي يصارع بعضها بعضًا، حرب داخلية تجعل الفرد يتصرف بشكل مختلف حين يكون ضمن جماعته أو بمفرده، كما أن ترسبات الماضي غير الواعي تضيف مزيجًا من الالتباس على ذاته. هنا تُعد الأسماء ليس فقط للاستعارة السردية بل محاولة لاستكشاف الأرواح المشتتة داخل النص.
كيف استطاعت الأديبة المهاجرة، التي انفجرت كتابةً بعد عام 2003، أن تظل وفية لروح “العراق العظيم” الذي وصفته، في ظل التغريب والتفكك الذي أصبح واقعًا للمهاجرين، وفي ظل الفوضى التي تضرب البلد الأم؟**
هذه العلاقة الملتبسة والتي لا يمكن تفسيرها سوى كونها فيضًا من التناقضات المبنية على كم كبير من الالتباسات، والتي تُبنى على حزمة كبيرة من الحب غير المفهوم والولاء الذي لا يتوقف لمكان لا يعترف بك وتلاحقه بمشاعرك، فهو مثل علاقة حب من طرف واحد. كيف تبقى الروح وفية لمكان يبتعد عنها كل يوم؟! ولم يعترف بها إلا في صمت الذاكرة. لقد انفجرت الكتابة لسرد العراق كما هو في الذاكرة، ورغم التغريب وفوضى الأمكنة التي تلتهم المهاجرين، ورغم الخراب الذي يلتهم الوطن، لكنَّ هناك شيئًا ما تطارده كما لو كان حبًّا من طرف واحد وتجعل من الكتابة فعل نجاة، ومن الذاكرة وعاءً لصوت لم يمت.

في رواية “زهرة”، تقول البطلة إنها مثل “كايسا” السويدية التي قامت بتربيتها؛ بلا دين محدد. ورغم أنكِ تصفين هذا السؤال بالإشكالي، إلا أن هذه الفكرة تتردَّر في أعمالكِ. هل هي محاولة لرسم ملامح إنسان جديد للعراق أو للمنطقة، يتجاوز الانقسامات القديمة ويكون خلاصة في هويته الإنسانية وحدها؟
أنا لا أؤمن بالتنميط والهويات العقائدية وتصنيف الناس ضمن قوالب جاهزة، فهذه الصور تُبنى على تعميمات سطحية وإلغاء التنوع وتفريغ الإيمان من إنسانيته؛ لأن الإنسان لا يُختزل في قالب واحد، ولا يمكن حصره في هوية ضيقة تحدد له من يكون وكيف يفكر. لقد ابتليت هذه المنطقة ببلاء التصنيفات التي قسمت أبناءها وقيدت أرواحهم خلف أسوار الانتماء والطائفة والعرق والدين، ولا يمكن لأية نهضة أن تبدأ من داخل جدران مغلقة بل من مساحة واسعة يتنفس فيها الإنسان حريته أوَّلًا. أؤمن أن الخلاص يبدأ من مصالحة الإنسان لذاته، مع الجزء المختلف فيه الذي يخشاه أحيانًا أو يحاول إنكاره. نحن بحاجة إلى أن نرى أنفسنا كبشر قبل أي تعريف آخر، وأن نتحرر من ثقل التسميات التي ورثناها دون اختيار. في أعمالي عمومًا وزهرة بالأخص، لست أدعو إلى إنكار الجذور والتنصل من الهُوية، بل إلى تجاوزها نحو ما هو أعمق وأرحب؛ نحو إنسان يرى في تعدده قوة وفي اختلافه جمالًا، فجوهر الإنسان لا تحدُّه الحدود ولا تصنفه الأديان أو الأعراق، بل يُعرف بقدرته على المحبة وعلى العيش في سلام مع نفسه والآخر.
تصفين الناجين في العراق بأنهم ليسوا بناجين. هل هذه المقولة هي نتيجة لقناعة بأن الخراب ليس حدثًا عابرًا، بل هو حالة وجودية دائمة، وأن النجاة الوحيدة الممكنة هي في الوعي بهذا الخراب، وليس في تجاوزه؟
النجاة ليست تلك الفكرة الفيزيائية المرتبطة بإنقاذ الجسد من أهوال الحروب، نحن لا ننجو بأجسادنا، بل بترميم المعنى في عالم تتساقط فيه القيم، وحين نحافظ على ما تبقى من الحلم رغم اتساع العدم. وللنجاة مفهوم إنساني أعمق، يقوم على فهمنا لعالمنا، وهي ليست عبورًا جسديًّا من موت إلى حياة، بل رحلة وعي وسط الخراب على أساس فعل إنقاذ من الخارج، وفعل مقاومة صامتة من الداخل ضد التآكل الذي يصيب الروح حين تفقد معناها. الخراب في بلادنا لم يعد حدثًا طارئًا، بل أصبح حالة وجودية تلتبس بها الحياة نفسها، حتى غدت النجاة الحقيقية في إدراك هذا الخراب لا في الفرار منه. لم تكن نجاتنا بإنقاذ أجسادنا فقط، بل بخياراتنا حين نحاول ترميم المعنى في عالم تتساقط فيه القيم، وحين نحافظ على ما تبقى من الحلم رغم اتساع العدم. إن إنقاذ المجتمع لا يكون بإصلاح سطحه، بل بإحياء وعيه المدني والإنساني، بالخروج من سرديات الماضي التي ما زالت تشعل الصراع وتختصر الإنسان في انتماءات ضيقة، فالنجاة في النهاية ليست وعدًا بالخلاص، بل فعل مقاومة مستمر للانطفاء.



