منوعات

لا خير في ثروة.. لم تنفع مجتمعها

بقلم  د عبد الله صادق دخلان

يُفني كثيرٌ من الأغنياء أعمارَهم في العمل المتواصل لجمع الثَّروات، يراقبُونَ أرصدتهم في البنوك بدقَّةٍ مفرطةٍ، بينما لا تلامس تلك الأموال أيديهم يومًا، ولا تمنحهم بالضرورة حياةً أعمقَ، أو سعادةً حقيقيَّةً، ينشغل بعضهم بالمظاهر أكثر من اهتمامهم بمَن حولهم؛ فيبنُونَ القصورَ، ويستمتعُ بها الخدم، ويشترُونَ السيَّارات الفارهة،

ويستمتع بقيادتها السَّائقُونَ، بينما تبقَى الأرصدةُ حبيسة الحسابات في البنوك، تنمُو من فوائدها، ثمَّ يموت من جمعها، لتنتقل إلى ورثةٍ قد لا يعرفُونَ حجم التَّعب الذي بُذل، أو قد تضيعُ حصيلة عمر كامل في فترة قصيرة، وقد يختلفُونَ سنوات على توزيع الثَّروة بين الورثة. وأجمل ما قرأتُ -مؤخَّرًا- رسالة منقولة لي، أشكرُ مَن كَتبَها، ومَن أرسلَهَا، وأنقلُها بنصِّها لقرَّائي، وتروي الرسالة قصَّة: (رجل أعمال صيني، مات وترك خلفه مليارًا وتسعمئة مليون دولار، زوجته تزوَّجت سائقه بعد أيام قليلة، وعندما سُئل السَّائق، قال جملةً تختصرُ فلسفة الاقتصاد والحياة معًا:

«كنتُ أظننِي أعملُ لسيِّدي، واكتشفتُ بعد موته أنَّ سيِّدي كان يعملُ لي»)..

هذه الجملة ليست نكتةً، بل صيحة يقظة، فالقضيَّة ليست مَن يملك، بل مَن ينتفع، ليست مَن يجمع، بل مَن يعيش ويفيد، فالمالُ الذي لا يلامسُ يدَ صاحبهِ، هو في الحقيقة ملكٌ لغيرهِ، حتَّى وإنْ حمل اسمه في دفاتر البنوك، وصكوك الأراضي.

وفي كتاب «الحكمة المتأخِّرة»، يقول الفيلسوف الألمانيُّ شوبنهاور: ليسَ الغِنى أنْ تملكَ ما هو كثيرٌ، بل أنْ تستغنِي عمَّا هو زائدٌ.

نحن نعيش اليوم في عالمٍ يُقدِّس الزَّائد لا الضروري، هو عصر «السَّبعين في المئة» الفائضة التي لا ننتفع بها، ولا نعرف لماذا جمعناها؟

انظر إلى هاتفك الذكيِّ، سبعون في المئة من خصائصه لا نستخدمها، أقوى الكاميرات، وأوسع الذَّاكرات، ومئات المزايا… كلها ترفٌ رقميٌّ لا يصنعُ حياةً. وانظر إلى السيَّارة الفارهة، سبعون في المئة من سرعتها لا نحتاجُها، المهم أنْ تصل، لا أنْ تنفجرَ عداداتك فخرًا، وأنت عالق في الزحام. وانظر إلى خزانتك، سبعون في المئة من الملابس معلَّقة، تنتظر مناسبة لا تأتي؛ لأنَّ الحياة لم تُخلق لتكون عرض أزياء يومي. وانظر إلى البيوت، قصور لا تدخلها الشَّمس إلَّا في غرفة واحدة، زاوية واحدة نفضِّل الجلوس فيها، وناحية واحدة من الأريكة نتسابقُ عليها، غرف فارغة تشبه حياتنا التي امتلأت بكل شيء… إلَّا بما نحتاج.

المال الذي نعملُ العمر كله لجمعه، سيذهب في النهاية لغيرنا، قد يرثه ابنٌ لم يعرف كم سهرنا وكم تعبنا لأجله، أو زوجةٌ ستنفقُه مع مَن لم نرَ له وجهًا في حياتنا.

ولهذا، علينا أنْ نحمي الثلاثين في المئة التي تبقى لنا؛ لأنَّها هي الحياة الحقيقيَّة.. هي الصحة التي أهملناها، والجسد الذي تآكل، بينما كنا ننفخ حساباتنا البنكيَّة.

احرص على جسدك، حتَّى لو ظننت أنَّك بخير، فالمرض لا يستأذن، اشرب الماء، حتَّى وإنْ لم يصرخ جسدك عطشًا، فالعطشُ الصَّامتُ يقتل أكثر ممَّا نتوقَّع.

تجاوز، حتى وإنْ كنتَ على حقٍّ، فالقلبُ الذي يحمل كلَّ المعارك أرض بور.. تنازل، حتى وإنْ غلبك المنطقُ، فالصلابةُ المفرطةُ تكسر صاحبها.

ابقَ متواضعًا، حتَّى وإنْ كنتَ قويًّا، أو غنيًّا، أو مشهورًا، فالكِبر يجعلُ الإنسان فقيرًا مهما امتلك.. تدرِّب، على أنْ يكون ذهنك يقظًا وجسدك مرنًا، فالكسلُ بداية الشيخوخة… ولو كنت في العشرين.

امنح وقتك لمَن تُحب، حتَّى وإنْ كنتَ مشغولًا، فالذين نحبُّهم هم الجزء الوحيد الذي لن يرثه أحد بعد موتنا.. واجعل لآخرتك نصيبًا ممَّا تجمع، فالمالُ الذي يصل قبل أنْ تصل، هو وحده الذي يبقى معك في النهاية، ذلك هو الادِّخار الحقيقي.. أمَّا الباقي، فهو مجرد عرضٍ زائل، كبالونٍ يرتفع قليلًا… ثم ينفجر.

الحكمة ليست أنْ نعيش طويلًا، بل أنْ نعيش كما يجب، وأنْ نعرف قيمة ما نملك، قبل أنْ نعرف مصير ما نترك».

في النهاية، ليست المشكلة في المال، بل في علاقتنا به، أنْ نملكه دون أنء نعيش أثره، وأنْ نجمعه على حساب صحَّتنا ووقتنا ومَن نُحب، الحكمة الحقيقية أن نوازن بين ما نكسبه، وما نعيشه، وما نقدمه لمجتمعنا، وأن ندرك أن أثمن ما نملكه ليس ما سنتركه خلفنا من المال، بل ما سنتركه من أثر إيجابي على المجتمع الذي عشنا فيه، وبنينا ثروتنا منه، فلا خير في ثروة لم تخدم مجتمعها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى