القطاع الصحي.. من الرعاية إلى الريادة

بقلم / د عبدالله صادق دحلان
في وقت تتسارع فيه المتغيِّرات الصحيَّة عالميًّا، وتزداد التحدِّيات المرتبطة بجودة الحياة؛ وارتفاع تكاليف العلاج، تسير المملكة بخطى واثقة نحو بناء نموذج صحيٍّ متكامل، لا يكتفي بعلاج المرض، بل يصنع الصحَّة، ويُعزِّز الوقاية، ويضع الإنسان في قلب المنظومة.
فمنذ إطلاق رُؤية المملكة 2030، لم يعد القطاع الصحيُّ مجرَّد قطاع خدميٍّ، بل أصبح ركيزةً تنمويَّةً وأحد أهم محرِّكات الاستقرار الاجتماعيِّ والاقتصاديِّ، حيث شهدت المملكة توسعًا ملحوظًا في البنية التحتيَّة الصحيَّة، فتجاوز عدد المستشفيات أكثر من 500 مستشفى، إضافة إلى آلاف المراكز الصحيَّة الأوليَّة التي تغطِّي المدن والمحافظات والقرى، ولم يكن هذا التوسُّع كميًّا فحسب، بل جاء مصحوبًا بتحسين جودة الخدمة، ورفع كفاءة التشغيل، وتحديث التجهيزات الطبيَّة وفق أعلى المعايير العالميَّة.
كما أسهم إشراك القطاع الخاص في تعزيز الطاقة الاستيعابيَّة للمنظومة الصحيَّة، سواء عبر الاستثمار في المستشفيات التخصصيَّة، أو مراكز الأشعَّة والتَّشخيص، أو خدمات التأهيل؛ ممَّا أسهم في تقليل الضغط على المستشفيات الحكوميَّة، ورفع مستوى التنافسيَّة وجودة الخدمة.
ولم يكن تطوير المنشآت كافيًا دون الاستثمار في الإنسان، فقد شهدت المملكة نموًّا متسارعًا في أعداد الأطبَّاء والممارسِينَ الصحيِّينَ، إلى جانب برامج الابتعاث والتَّدريب والتَّخصص الدَّقيق، ورفع نسب التَّوطين في القطاع الصحيِّ.
وتُظهِر المؤشرات الحديثة، أنَّ المملكة باتت تمتلك واحدةً من كُبْرى القوى الصحيَّة في المنطقة، مع تركيز واضح على جودة الكفاءة وليس العدد فقط، إلى جانب تمكين المرأة السعوديَّة التي أصبحت اليوم عنصرًا فاعلًا في مختلف التخصُّصات الطبيَّة والقياديَّة.
ومن أبرز إنجازات المرحلة الأخيرة، هو تحسين الوصول للخدمات الصحيَّة، حيث وصلت نسبة التَّغطية الصحيَّة إلى ما يقارب 97% من السكَّان، بما يشمل المناطق الطرفيَّة والنَّائية.
كما شهدت خدمات الإسعاف والطوارئ تطوُّرًا لافتًا، مع انخفاض زمن الاستجابة بشكل ملحوظ، مقارنةً بالسنوات الماضية؛ ما انعكس مباشرةً على نسب النجاة، وجودة التعامل مع الحالات الحرجة.
هذا التحوُّل لم يكن ليحدث، لولا الاستثمار في الأنظمة الذكيَّة، وربط المرافق الصحيَّة، وتكامل البيانات الصحيَّة بين الجهات المختلفة.
ومن التحدِّيات التي واجهت كثيرًا من الأنظمة الصحيَّة عالميًّا؛ مسألة قوائم الانتظار، إلَّا أنَّ المملكة نجحت خلال عام 2025 في تحقيق قفزةٍ نوعيَّةٍ في هذا الجانب، حيث تضاعفت القدرة الجراحيَّة الأسبوعيَّة، وارتفعت نسبة إنجاز العمليَّات في الوقت الطبيِّ المعياريِّ إلى مستويات متقدِّمة.
ويُعدُّ هذا الإنجاز نتيجةً مباشرةً لإعادة هيكلة آليَّات التَّشغيل، وتحسين إدارة الموارد، والاستفادة من نماذج الشراكة بين القطاعين العامِّ والخاصِّ.
إنَّ التحوُّل الحقيقيَّ لا يُقَاس بعدد المستشفيات فقط، بل بقدرة المجتمع على الوقاية قبل العلاج، ومن هنا برزت برامج تعزيز أنماط الحياة الصحيَّة، ومكافحة الأمراض المزمنة، مثل السكَّريِّ، والسُّمنة، وأمراض القلب، عبر مبادرات وطنيَّة، تشمل المدارس، ومقرَّات العمل، والأماكن العامَّة.
وبلغ الإنفاق الحكوميُّ على قطاع الصحَّة والتَّنمية الاجتماعيَّة في ميزانيَّة 2025 مستويات تعكس أولويَّة هذا القطاع، ليس فقط من حيث الحجم، بل من حيث كفاءة التَّوظيف، فالتحوُّل لم يعد قائمًا على زيادة الإنفاق فقط، بل على تحسين الأثر، وتعظيم العائد الصحيِّ والاجتماعيِّ لكلِّ ريال يُنفَق.
كما فتحت الدولة المجال واسعًا أمام الاستثمارات الصحية النوعية، سواء في التقنيات الطبية المتقدمة، أو البحث والتطوير، أو التعليم الطبي؛ ما يُعزِّز موقع المملكة كمركز إقليمي للرعاية الصحية المتقدمة.
إنَّ ما تشهده المملكة اليوم، ليس مجرَّد تطوير خدمات، بل إعادة تعريف لمفهوم الصحَّة بوصفها أساسًا للتنمية وجودة الحياة والازدهار الاقتصاديِّ، ومع استمرار الإصلاحات، وتكامل الجهود بين الجهات الحكوميَّة والقطاع الخاصِّ والمجتمع، تتَّجه المملكة بثقةٍ نحو نموذجٍ صحيٍّ يُحتذَى به إقليميًّا وعالميًّا.
إنَّ ما تحقق حتى 2025، يؤكِّد أنَّ الاستثمار في الإنسان هو الاستثمار الأجدى، وأنَّ صحَّة المجتمع ليست بندًا في الميزانيَّة، بل ركيزة في بناء المستقبل.



