مسرحية: “المناقصة الكبرى” بقلم اشرف عبد العزيز
مسرحية: “المناقصة الكبرى”
تاليف اشرف عبد العزيز
الشخصيات:
الباشا: رجل أعمال ثري، يبدو عليه السطحية والطمع، ولكنه يخفي تحتها خوفًا مبطنًا.
كريم: شاب جامعي، مثالي وحالم، يرى العالم بمنظور مختلف.
أمين بك: موظف حكومي بيروقراطي، روتيني، كل همه إنهاء الإجراءات.
فاطمة: سيدة بسيطة، تمثل صوت الشعب الذي لا يجد من يسمعه.
صوت من خارج المسرح: يمثل الضمير العام أو صوت المدينة.
المشهد الأول: وهم الواجهة
المكان: مكتب فخم يبدو عليه البذخ المبالغ فيه، ولكنه يفتقر إلى الذوق الرفيع. توجد لوحة ضخمة فارغة على الحائط، وكأنها تنتظر أن تمتلئ بالوعود الكاذبة. أوراق مبعثرة على مكتب الباشا.
الزمان: صباح يوم قائظ، الشمس الحارقة تعكس لهيب الأطماع.
(الباشا يجلس خلف مكتبه، يمسح جبينه بمنديل حريري مطرز. يبدو عليه التعب أكثر من النشاط، كأن الثراء استنزف روحه. يدخل أمين بك حاملاً مجموعة من الأوراق والملفات المكدسة.)
أمين بك: (بصوت رسمي جاف، كأنه آلة) صباح الخير يا باشا. كل شيء جاهز للمناقصة الكبرى. مناقصة “تجميل واجهة المدينة”. آخر تعديلات على البنود، وتأكيدات بضمان السير السلس للإجراءات.
الباشا: (يتثاءب بصوت مسموع، دون اكتراث) صباح النور يا أمين بك. “تجميل واجهة المدينة”؟ (يضحك بسخرية خافتة) وهل يمكن تجميل ما هو أصلاً قبيح من الداخل؟ وماذا سأستفيد أنا من طلاء الواجهة؟ هل ستزيد أرباحي؟ هل ستدغدغ حساباتي البنكية؟
أمين بك: (يرفع حاجبيه، بنبرة الواثق من عمله) يا باشا، هذه ليست مجرد مناقصة، إنها صفقة العمر! المشروع سيحقق لك أرباحًا طائلة، ويغسل سمعة أي… (يتوقف قليلاً ويبتسم بخبث) …أي شبهات سابقة. بالإضافة إلى النفوذ الذي سيتعاظم، ستمسك بزمام المدينة كلها.
الباشا: (يغمض عينيه للحظة، وكأنه يرى الأرقام تتراقص أمامه) النفوذ… هذا هو جوهر اللعبة إذن. هل كل شيء مضبوط؟ هل ضمنا أن المناقصة ستكون… (يفتح عينيه فجأة وينظر لأمين بك بثقة) …لنا؟ بالرغم من كل “الشفافية” المزعومة؟
أمين بك: (يميل برأسه قليلاً، يهمس) الإجراءات تتبع القواعد يا باشا. ولكن القواعد أحيانًا تكون مثل عجينة مرنة، تتشكل في أيدي من يعرفون كيف يطوعونها. لا تقلق، كل شيء “قانوني” حتى اللحظة، ولن يجرؤ أحد على الاعتراض.
(يفتح باب المكتب فجأة على مصراعيه، ويدخل كريم حاملاً رسومات تخطيطية مبتكرة ودفترًا قديمًا. يبدو عليه الحماس الممزوج بالسذاجة.)
كريم: (بلهفة تتجاوز حدود اللياقة) صباح الخير سيدي! أنا كريم، طالب الهندسة المعمارية، قسم التخطيط العمراني! سمعت عن مناقصة “تجميل واجهة المدينة”، وقد قضيت شهورًا أعد تصميمًا فريدًا يخدم الناس حقًا، ويضيف للمدينة روحًا جديدة! تخيلوا، مساحات خضراء، ميادين تجمع الناس، أماكن للفنانين…
الباشا: (ينظر إليه ببرود، ثم ينظر إلى عثمان بتعجب) تصميم؟ (يرفع حاجبه) هل نحتاج لتصميمات جديدة يا أمين بك؟ ألم نتفق على اللوحة الإعلانية العملاقة التي ستغطي الواجهة وتعمي عيون الناس عن الحقيقة؟
أمين بك: (يهز رأسه بملل) هذا ما تم الاتفاق عليه في الغرف المغلقة يا باشا. البساطة هي الحل. لوحة واحدة، ربح مضمون.
كريم: (بصدمة لا يصدقها عقله) لوحة إعلانية؟! ولكن المدينة ليست لوحة إعلانية يا سادة! هي كائن حي يتنفس، يعيش فيه بشر! تحتاج إلى مساحات خضراء، لممرات للمشاة، لمقاعد للراحة! تحتاج إلى جمال حقيقي ينبع من تلبية احتياجات سكانها، لا مجرد إعلان ضخم يغطي قبحًا أكبر!
الباشا: (يضحك بصوت عالٍ، يطبل على المكتب) قبحًا؟ (ينفث دخان سيجاره في وجه كريم) يا بني، القبح والجمال وجهان لعملة واحدة، عملة اسمها المال. إذا كانت اللوحة ستجلب لي المال، فهي أجمل شيء في الوجود. هذه هي قوانين السوق، وقوانين الحياة!
(تدخل فاطمة، سيدة بسيطة في ملابس متواضعة، تحمل بين يديها ورقة صغيرة باهتة، عيناها متعبتان ولكن لا تزال فيهما بصيص كرامة.)
فاطمة: (بتردد، صوتها بالكاد مسموع) أمين بك؟ أنا فاطمة، جئت لأستفسر عن طلب إزالة أكشاك الباعة الجائلين من الشارع الرئيسي. قالوا إنها ستُزال من أجل “التجميل”. هذه المرة الرابعة التي آتي فيها، ولا أجد جوابًا شافيًا.
أمين بك: (ينفخ بضيق، يتجاهل نظرة فاطمة المتوسلة) نعم، هذا جزء لا يتجزأ من المشروع. واجهة المدينة يجب أن تبدو حضارية، يا سيدة. الأكشاك تشوه المنظر العام، تعيق حركة المرور، وتزيد من الازدحام.
فاطمة: (بصوت خافت يملؤه اليأس) ولكن هذه الأكشاك هي مصدر رزقنا الوحيد. أين نذهب نحن وأولادنا؟ عشرات الأسر تعيش على هذه الأكشاك البائسة! هل “الجمال” يعني أن نموت جوعًا؟ هل يعني أن نُطرد من الشوارع التي شهدت تعبنا وشقاءنا؟
الباشا: (ينظر إلى فاطمة بلا مبالاة، ثم يشير بيده بعيدًا) هذه أمور جانبية، لا تهم المناقصة ولا المشروع. العمل يتم لصالح “الصالح العام” يا سيدة. الصالح العام يقتضي التضحية ببعض… التفاصيل.
كريم: (بصوت مرتفع، غاضبًا، يكاد ينفجر) أي صالح عام تتحدثون عنه؟! هل الصالح العام هو جني الأرباح الطائلة على حساب دماء الناس البسطاء ولقمة عيشهم؟ هل الصالح العام هو طمس هوية المدينة بلوحات إعلانية سخيفة لا معنى لها؟ هذا ليس تجميلًا، هذا تشويه للروح الإنسانية قبل أن يكون تشويهًا للمدينة!
الباشا: (يقف فجأة، يضرب بيده على المكتب بقوة، يخرج عن هدوئه المصطنع) أنت تتطاول أيها الشاب! هذا كلام مثالي فارغ، لا قيمة له في عالم المال والأعمال! هذا هو الواقع! الواقع الذي يديره الأقوياء، والمال هو سيد الموقف! هل تظن أن العالم يسير بالعواطف والأحلام الوردية؟!
أمين بك: (يسحب كريم من ذراعه بقوة) اهدأ يا كريم. لا تفهم الأمور هكذا. هناك مصالح عليا تقتضي ذلك.
فاطمة: (تتجه نحو الباشا، عيناها مليئتان بالدموع ولكن صوتها يصبح أكثر حزمًا) يا سيدي، هل فكرت يومًا أن “الواجهة” ليست فقط المباني واللوحات الإعلانية البراقة؟ الواجهة الحقيقية هي الناس، هي وجوههم المتعبة، هي قلوبهم التي تنزف، هي أرواحهم التي تُداس! الواجهة الحقيقية هي سعادتهم وشقائهم، أوجاعهم وآمالهم!
الباشا: (يشعر ببعض التوتر، يتراجع خطوة للخلف، ولكن سرعان ما يخفي ذلك بتصلب) كلام عاطفي لا مكان له في عالم الأعمال هذا. المناقصة ستتم، واللوحة ستوضع، والأكشاك ستزال. هكذا تسير الأمور دائمًا. هكذا كانت، وهكذا ستظل!
صوت من خارج المسرح: (صوت عميق، كأنه قادم من باطن المدينة) لا… ليست هكذا دائمًا.
(ينظر الجميع نحو مصدر الصوت، ولكن لا يجدون أحدًا. الباشا وأمين بك ينظران لبعضهما البعض بارتياب، بينما يتلقى كريم وفاطمة هذا الصوت كجرعة أمل خفية.)
كريم: (يلتقط رسوماته من على المكتب، ينظر إلى الباشا وأمين بك باشمئزاز، صوته يرتفع بلهجة تحدٍ) ربما تسير الأمور هكذا الآن، ولكن التاريخ لا ينسى! التاريخ يكتبه من يصنعون الجمال الحقيقي، من يبنون مستقبلًا للبشر، لا من يبيعون أوطانهم من أجل أرباح زائفة! تذكروا: لكل طاغية نهاية، ولكل ظلم ثمن!
(يخرج كريم غاضبًا، تتبعه فاطمة بحزن ولكن بعينين تلمعان بالإصرار، وهما يلقيان نظرة أخيرة على اللوحة الفارغة على الحائط، والتي تبدو الآن كرمز للفراغ والخواء الذي يحاولون ملأه بالمال. الباشا يعود ليجلس خلف مكتبه، يفرك يديه بعصبية، وأمين بك يبتسم بخبث وهو يضع الملفات أمامه، وكأن شيئًا لم يكن، ولكن هناك ارتباك خفيف في عينيه.)
أمين بك: (بهدوء شديد) إذًا، يا باشا. نوقع العقود؟ كل شيء تحت السيطرة.
الباشا: (ينظر إلى اللوحة الفارغة، ثم إلى أمين بك، تظهر على وجهه للحظة نظرة تردد غريبة، وكأنه يسمع صدى صوت كريم وفاطمة، ثم سرعان ما تختفي ويحل محلها العناد القديم) نعم. وقع.
(يسود صمت ثقيل المكان، بينما يوقع أمين بك الأوراق. فجأة، يسقط قلم من يد الباشا ويتدحرج تحت المكتب. ينحني ليلتقطه، وفي تلك اللحظة، يسمع صوتًا خافتًا، كصوت تكسر شيء ما. يرفع رأسه، ينظر إلى أمين بك الذي ينهي التوقيع. تبقى اللوحة الفارغة على الحائط كشاهد صامت على “المناقصة الكبرى”، وعلى أرواح قد تم بيعها وشراؤها