من يحب الحياة.. يعش طويلاً

كتب : د عبد الله دحلان
كان من أصعب أيام حياتي في بيتنا، هو يوم تقاعد والدي -رحمه الله- من العمل، عندما بلغ الستين عامًا من عمره، كان يومًا صعبًا على البيت بأكمله، أمي، وأخواتي، وإخواني، كانت الدموع تذرف من أعيننا. كان يومًا يُسجَّل في تاريخ حياتنا.
والدي صاحب الشخصيَّة الجميلة العمليَّة، التي لا تعرف اللهو في الحياة، ولا الرَّاحة من العمل، خدم بلاده حتى سن التقاعد، سنين طويلة جدًّا، وابتدأ حياته من دراسته في الأزهر الشريف، وتخرُّجه فيه ضمن أوَّل بعثة سعوديَّة للأزهر الشريف، ثم التحق بمجلس الشورى حتَّى أصبح أمينًا عامًّا للمجلس، ثم عضوًا فيه، ثم نائبًا لرئيس مجلس الشورى قبل انتقال المجلس إلى العاصمة الرياض.
لكنَّ النظام قد طُبِّق عليه، وأُحيل للتقاعد، فكان يومًا صعبًا عليه وعلينا، كان يومًا بالنسبة له نهايةً لحياته، ولن ننسى ذلك اليوم الذي كنَّا ننتظر فيه عودة والدي لنتغدَّى سويًّا معه، وكنَّا نرجع من المدرسة، أنا وأخواتي وإخواني، وننتظره ليأتي لنجتمع على مائدة الطعام، وهو على رأس السفرة التي كانت تجمعنا على الأرض، وفي ذلك اليوم، الذي عاد فيه بعد إنهاء إجراءات التقاعد، كان يحمل في يده «طاقة قماش ثياب بيضاء»، ظننتُ أنَّه اشترى لنفسه قماش ثياب جديدة، ولم يستطع أحد أنْ يسأله لمن؟ ولماذا؟ لكنَّنا علمنا -فيما بعد- من والدتي -رحمها الله- أنَّه ذهب واشترى لنفسه كفنًا أبيضَ؛ استعدادًا لقرب نهاية حياته.
حيث كان يعتقد بعض مَن يُحال للتقاعد، أنْ تقاعده من العمل يعني رحيله من الحياة، وكنَّا قلقين جدًّا، ونتساءل: كيف سيقضي والدي وقته في البيت من الصباح حتَّى الظهر؟ أين سيذهب يوميًّا؟ والحقيقة هذه ليست قضيتنا فقط، بل كانت قضيَّة كل أسر المتقاعدين.
وفي يوم من الأيام، وقبل وفاته بأيَّام، دخلتُ عليه في غرفته في المستشفى، حيث كان يتعالج من بعض العجز، وكان قد بلغ حوالى 104 أعوام من عمره، أي أنَّه بقي حيًّا ومتماسكًا وحيويًّا، ولم يواجه صعوبات صحيَّة إطلاقًا لمدة 44 عامًا بعد تقاعده.
دخلتُ عليه الغرفة، فوجدته مغمض العينين، فمه مفتوح، ظننتُ أنَّه قد فارق الحياة، واقتربتُ منه باكيًا، أقول بصوت عالٍ: «أبي.. أبي!»، وإذا به يفتح عينه ويُفاجئني قائلًا: «ما بك يا ابني؟»، فقلتُ له: «أرجوك لا تمُت حتَّى تخبرني ما هو سرُّك في طول الحياة؟ عمرك الآن 104 أعوام، ولم تواجه أيَّ مرض: لا نوبة قلبيَّة، ولا سكَّر، ولا ضغط، ولا جلطات في الدماغ، ولا شلل نصفي أو كلي، لا شيء… وما تعاني منه كِبر في السن فقط، لكنَّك سليم بكامل قواك العقليَّة»؟
فأجابني: يا بني من يحب الحياة يعش طويلا، فاستعرت كلمته لتكون عنوان مقالتي اليوم، والتي لها معانٍ كثيرة، وأنا لا أتكلم من فراغ، ولكنني من واقع عشته، فقد كان والدي محباً للحياة، كثير القراءة، كثير الكتابة، ألف مجموعة من الكتب بعد تقاعده، كان كثير حب الاستطلاع، زار كل أنحاء المملكة، ومعظم أنحاء العالم، كان له دور اجتماعي في إصلاح ذات البين، عاش بعد التقاعد وكأنه بدأ بداية حياة جديدة، فلم يشعر بالضيق، ولا بالألم، ولا بالخوف، ولا بالهم.
كان يقضي وقته في التحاور في بعض الأمور الدينيَّة والاجتماعيَّة والإنسانيَّة مع بعض من أصدقائه.
رحم الله والدي، الذي حفظ القرآن في سنِّ الثانية عشرة، والذي لم يقطع في حياته يومًا من الأيام صلاة له، كان يُصلِّي جمعةً في مكَّة المكرَّمة، وجمعةً في المدينة المنوَّرة، كانت له صداقات عديدة، ولم يكن غنيًّا ثريًّا صاحب مال، لكنَّه كان غنيًّا ثريًّا بالعلم وسموِّ الأخلاق.
هذا ما أردت أنْ أسرده اليوم لفئة المتقاعدين، وهي مناسبة أسردها بعد انضمامي مؤخَّرًا إلى (نادي ستين تسعين حياتي الجديدة)، بعد أنْ بحثت عن القائمين على هذا النادي، حتَّى عثرت على منسق النادي الأستاذ صلاح الدين أمين مدير، والأستاذ عدنان أبوالفرج، والدكتورة دعاء أحمد دشاش، الذين قاموا مشكورين بزيارتي في مكتبتي في البيت، وأخبروني عن هذا النادي وأهدافه، ودعوني للانضمام لهم.. وهو نموذج ريادي تطوعي في المملكة؛ لتحسين جودة حياة كبار السن من المواطنين والمقيمين بمدينة جدة، من خلال برنامج تفاعلي شمولي يمزج فيه بين الترفيه، الصحة، الثقافة، والتعليم، ويهدف إلى تعزيز المشاركة المجتمعية والاستقلالية لكبار السن، من خلال فرص تعارف، ويعتمد على دعم تطوعي، وشراكات أكاديمية، وقانونية، وصحية.
وهي مناسبة لأن أُوجه رسالتي لكل المتقاعدين بأنْ يُحبوا الحياة، فحُب الحياة يمد في عمر الإنسان -بإذن الله-، لا بعدد السنين، بل بعمق الأثر، واتِّساع التجربة.. فالتقاعد ليس نهاية، بل بداية جديدة لحياة أفضل، بعيدة عن القيود والضغوط النفسيَّة.
وأدعو مَن يرغب من المتقاعدين الانضمام لهذا النادي التطوعيِّ غير الربحيِّ، وأتمنَّى أنْ تتكرَّر تجربة هذا النادي في كل أنحاء المملكة، لأنَّ المتقاعدين ليسوا فقط في جدَّة، وأخيرًا نصيحتي للمتقاعدين بأنْ يحافظوا على مدَّخراتهم من نهاية الخدمة، ويحرصوا من بعض النصَّابين مقتنصي فرص أموال نهاية الخدمة.