مها القاضي: الفن ولادةٌ من الروح

كتب عزت اشرف
في كنف كل فنان حقيقي، يكمن عالمٌ لا تُحده جدران الأكاديميات ولا تُقيّده الأوراق، بل يتسع ليعانق الأرواح ويُشكّل الوجدان. من هذا العالم الشاسع، تُطل علينا الفنانة التشكيلية مها القاضي، لا كاسمٍ فحسب، بل كقوة إبداعية تُؤمن بأن الفن ليس مجرد زخرفة، بل رسالة حقيقية تتغلغل في أعماق النفس، لتُصبح بذرةً تُزرع في قلوب الأطفال فتُنمي فيهم الشغف، والأمل، والسلام الداخلي، وتُعلي من بناء شخصياتهم لا مجرد ترفيهٍ عابر. قصة مها هي صدى لأمنية طفولية عانقتها يوماً، أن يتبناها أحدهم فنياً ويُرشدها إلى دروب الجمال، فها هي اليوم تُضيء الطريق لصغار ترى في لمعان أعينهم انعكاساً لروحها الصغيرة التي كانت تبحث عن نور الفن، مؤكدة أن الإبداع الحقيقي لا يُولد إلا من أعماق الذات، ويتجاوز كل الحدود.
تُحدثنا مها القاضي عن رحلتها الفنية التي لم تُخضعها للمألوف أو للتصنيفات الجامعية. إنها تجد في كل اكتشاف لتقنية جديدة، وكل إتقان لأسلوب مبتكر، متعةً وتحديًا متجددًا، لاسيما أنها لم تتلقَ تعليمًا أكاديميًا في فنونها. هذا المسار الذي نحتته بنفسها هو نبع متعتها وإثبات لقوة إرادتها الفنية.
تُصحح مها بوضوح أي تصور خاطئ حول مسيرتها؛ فالانتقال لم يكن من التجارة إلى الفن، بل العكس تمامًا. هي التي ولدت فنانة، وجدت نفسها مُجبرة على دراسة إدارة الأعمال لأربع سنوات، لكن قلبها لم يهدأ. كان إحساسٌ داخلي يُلح عليها بأنها ليست في مكانها الصحيح، وأن نقص بضع درجات في مجموعها لم يكن ليُقاس به استحقاقها لتعلم الفن. تُعبر عن أملها العميق بأن تُعيد الجامعات الفنية النظر في معاييرها، لترى الشغف قبل الدرجات. فور انتهاء دراستها الأكاديمية، عادت إلى حيث تنتمي، قائلةً بملء الثقة: “هم من خسروني وليس أنا، لأنني سأواصل طريقي في هذا المجال مهما كان.” ومع ذلك، تُقر بوجود حسرةٍ صغيرة ما زالت عالقة: شعور بأن دخولها جامعة فنية كان سيضعها في مكان آخر تمامًا، ربما كأستاذة جامعية. لكنها تُشدد على أنها ليست مبالغة في حجم حبها وانتمائها لهذا العالم الفني الذي لا يُبارحه.
الفن كحياة:
تُقدم مها القاضي رؤيةً متكاملة للفن، تتجاوز حدود المعارض الصامتة. فبينما يُنظر إلى الفن التشكيلي في المعارض غالبًا كعمل تأملي أو فلسفي، يحمل تعبيرًا ذاتيًا قد لا يصل إلا لفئةٍ محدودة، تُؤمن مها بأن الفن يمكن أن يكون وظيفيًا، يدخل إلى حياتنا اليومية عبر ديكور الحوائط والمساحات الداخلية. إنه ليس مجرد تجميل، بل هو حوارٌ صامت بين المكان وشخصية الإنسان، سواء كان هو الفنان أو المتذوق.
تُعرب مها عن أمنيتها العميقة بأن يتسلل الفن إلى حياة كل إنسان بشكلٍ ما، وأن يدخل إلى كل بيت، مُعتبرةً ذلك وظيفة الفنان الأساسية ومصدر رزقه في آن واحد. وتُؤكد إيمانها بأن الفن ليس له حدود للإبداع ولا نهاية للتعلم. من التحديات التي واجهتها، أنها قابلت من يؤمن بها ويدعمها كفنانة، وفي المقابل، واجهت من ينظر إلى الفنان غير الأكاديمي كزائدة عن الحاجة، مُهمشاً قدراته وإمكانياته، ومعوقاً طريقه نحو الفرص في الوظائف أو المسابقات. لكن مها تغلبت على هذه العقبات بإيمانها الراسخ بذاتها وبقدراتها. لم ترَ أن مسارها الفطري يمنحها حرية أكبر فحسب، بل لطالما شعرت أن ما ينقصها هو الصقل الأكاديمي. ومع ذلك، تُدرك اليوم أن هذا المسار منحها شهادة تميز فريدة: “أنا فنانة فطرية، أنا هنا من الفن بلا جامعة.”
حكمة الفنان: التوازن بين الأثر والصدق
تُلخص مها القاضي جوهر نجاح الفنان الحقيقي في تحقيق التوازن العميق بين أثره في قلوب الناس وصدقه المطلق مع نفسه. تُشير إلى أن بعض الفنانين قد يبلغون الشهرة لكنهم يظلون غير راضين عن أعمالهم، بينما آخرون، وإن كانوا أقل شهرة، يعيشون سلامًا داخليًا وشغفًا حقيقيًا. هي تطمح إلى نجاح مهني يُمكّنها من تحويل شغفها إلى مصدر دخل مستقر، لتعيش من فنها. وهذا لن يتحقق إلا بكونها فنانة مؤثرة تُعلّم الفن، وتكون أعمالها مطلوبة، وتصل إلى مستوى تُختار فيه الأماكن التي تُعرض فيها أعمالها بعناية. في النهاية، ترى أن الحظ العظيم يكمن في أن يعمل الإنسان ما يُحب.
تُستلهم مها أعمالها الفنية من عمق وجدانها، من مشاعرها وأحاسيسها الصادقة، وليس من مصدر خارجي. تُعبر عن دخولها حالة الإبداع عندما تُغمرها حالة شعورية مفرطة، سواء كانت حزناً طاغياً، سعادة غامرة، حباً متدفقاً، أمومة جياشة، أو تعاطفاً عميقاً. تعتقد أن هذه الحالات الشعورية تُؤثر على الإنسان عموماً، لكن تأثيرها على الفنان يتجلى في صور جمالية وإبداعية. تتأمل مها في مصدر إلهامها، متسائلة عما إذا كان يأتي من الخارج ليؤثر في الداخل، أم أنه ينبع من الداخل أصلاً، فـ”كل إناء ينضح بما فيه، وإذا لم يكن الإنسان من جوفه مُلهماً لنفسه، فلن يؤثر فيه شيء.” تُقر مها بأنها ما زالت تحاول استكشاف مصدر إلهامها بدقة، وتُلمح بوجود طقوس خاصة لدخول حالة الإبداع، تُفضل الاحتفاظ بها لنفسها، لتُبقي على جانب من التشويق والفضول للجمهور.
العيون: لغة الروح في البورتريه
تُفصح مها القاضي عن سرٍ كامن في فنها؛ فهي تلتقط روح الشخصية التي ترسمها من العيون. العيون هي أكثر ما يشدها، وهي تفضل بدء رسم البورتريه بها، مؤكدة أنها أصدق أداة للتعبير. فيها فصاحة لا يجيدها اللسان، وبوح صامت أبلغ من ألف حديث. “العيون لا تُجيد الكذب، فهي تُجيد البوح، لأن في صمتها حديث لا يُقال بل يُحس.”
تُوضح مها أن حبها لرسم البورتريه بشكل عام ينبع من قناعتها بأن العنصر البشري هو الأكثر قدرة في الطبيعة على توصيل رسالتها للمتذوق من خلال مشاعره التي تنعكس في اللوحات. وتُؤكد أنه لا توجد قصة بورتريه محددة تركت فيها أثراً فريداً، فكل عين تحكي قصة مختلفة، وكل لوحة تُصبح رواية صامتة لها أثرها العميق في وجدانها ووجدان المتلقي.
وفي الختام، تُعرب الفنانة مها القاضي عن امتنانها العميق لهذا الحوار المُلهم، وتُبدي استعدادها التام لمشاركة أي صور أو لوحات عند الحاجة، مُرحبةً بكل خطوة تُقرب فنها من قلوب المتلقين.