المسيّرات.. ما بين أوكرانيا وإسرائيل
د. سنية الحسيني
ليست جديدة الاستخدام، فمنذ الحرب العالمية الأولى بدأ تطوير استخدام المسيّرات، والتي باتت تشكل اليوم سلاحاً استخبارياً وهجومياً شديد الخطورة والتأثير، في ظل التطورات التكنولوجية الحديثة، وتغير مفهوم الحروب التقليدي. أثار حدثان مهمان ضرورة العودة للتطرق لقضية المسيّرات، يتعلق الأول بالهجمات الأوكرانية داخل روسيا خلال الشهر الماضي، باستخدام تلك المسيّرات، في تطور ميداني مهم في هذه الحرب، والثاني يرتبط بإفصاح إسرائيل مؤخراً عن استخدامها لتلك المسيّرات، في ظل سعيها لتحقيق هدف بعينه، بعد عقدين من السرية وعدم الإقرار بذلك. ورغم عدم ارتباط الحدثين ظاهرياً، إلا أن هناك ما يجعلهما مرتبطين لأغراض التحليل، كما سيكشف هذا المقال.
خلال الشهر الماضي، وما بين مطلعه ونهايته، شنت مسيّرات، يعتقد أنها أوكرانية، هجمات داخل الأراضي الروسية، في تطور نوعي لمسار الحرب الروسية الأوكرانية. ففي مطلع الشهر الماضي وصلت تلك المسيّرات لمبنى الكرملين في موسكو، بينما وصلت في نهاية ذلك الشهر الى الحي الذي يقطن فيه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ضمن مناطق روسية أخرى تقع بالقرب من الحدود بين البلدين، ارتفع الهجوم عليها في الآونة الأخيرة. ورغم تصدي الدفاعات الروسية عالية القدرة للهجوم الأول، وقعت بعض الإصابات الطفيفة في الثاني. ونفى ميخايلو بودولياك مستشار الرئاسة الأوكرانية مسؤولية بلاده عن الهجمات، لكنه أكد على بدء الحرب داخل روسيا، وهو الأمر الذي وافق عليه أيضاً يفغيني بريغوجين رجل الأعمال الروسي المقرب من بوتين وقائد مجموعة فاغنر. جاء رد فعل بوتين على هذه الهجمات بالتقليل من شأنها، والتأكيد على القدرات الدفاعية الروسية في التصدي لمثلها. ورفض الرئيس الأميركي جو بايدن، وقيادات غربية أخرى هذا التطور الميداني في المعركة الدائرة، لعدم رغبتهم في تطور هذه الحرب إلى خارج حدود أوكرانيا، والاكتفاء بتعزيز قدرات التصدي والصمود الأوكراني، واستنزاف القدرات العسكرية الروسية ضمن الحدود الأوكرانية.
هناك عاملان يؤكدان على عدم إمكانية ذهاب هذا التطور الميداني وفق الإمكانيات الحالية إلى حد بعيد، يغير من معطيات اللعبة في هذه الحرب. يتعلق الأول بقدرات المسيّرات الأوكرانية التي ضربت الأهداف في روسيا، والتي تطير لساعات محدودة وتقطع مسافات ليست بالطويلة، ولا تقوى على حمل أوزان كبيرة من المتفجرات، وهو الذي يفسر محدودية الخسائر التي أحدثتها. في حين يتعلق العامل الثاني بحاجة الحكومة الأوكرانية لتقويض دعم الشعب الروسي الواسع لهذه الحرب، وهو يعيش حياة طبيعية، في حين يدفع الأوكرانيون أبهظ الأثمان، وهو ما سعت لتحقيقه الحكومة الأوكرانية بالفعل من خلال هذه الهجمات، والتي كان يفترض أن تسقط عددا من الضحايا لتحقيقه، وهو الأمر الذي لم تستطع تحقيقه مسيّراتها. فتحتاج المسيّرات سواء كانت استخبارية أو هجومية إلى بيئة مواتية لتكون فاعلة بالشكل المقبول، وهو ما تمتلكه إسرائيل في الحالة الفلسطينية على وجه التحديد، وتحاول الترويج له الآن، لرفع مبيعاتها وزيادة زبائنها، لكن السؤال المهم، هل تمتلك جميع دول العالم ما تمتلكه إسرائيل من بيئة مواتية لفاعلية عالية لهذا النوع من المسيّرات؟
تعتبر إسرائيل أول دولة في الشرق الأوسط تحصل على المسيّرات، كنتيجة مباشرة للالتزام العسكري الأميركي بتميزها عسكرياً عن جميع دول المنطقة. وكانت المسيّرات حكراً على الدول العظمى تحديداً طوال القرن الماضي، بدءاً بأميركا وبريطانيا ومروراً بألمانيا وروسيا. بدأت إسرائيل باستخدام هذا النوع من الطائرات نهاية العقد السادس من القرن الماضي، واستخدمته في حرب عام ١٩٧٣ وفي الحرب مع لبنان في العام ١٩٧٨. وفي مطلع الألفية الجديدة، وفي إطار التطورات التكنولوجية الهائلة في علم الاتصالات، ركزت إسرائيل على تطوير هذا النوع من الطائرات واستخدامها، في ظل امتلاكها لثلاث ميزات، وجودها كقوة احتلال مطلقة اليدين داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة تمكنها من العمل والتجربة والتطوير بحرية، لامتلاكها من بين دول قليلة أخرى لهذه التقنية وهذا النوع من الطائرات، في ظل عدم قدرة معظم البلدان المتوسطة الشبيهة بامتلاكها، ومساعدة ودعم أميركي عسكري واستخباري كبير، خصوصاً في ظل شن حربها على الإرهاب في المنطقة. إن ذلك يفسر اعتقاد البعض أن إسرائيل كانت أكبر مصدر للمسيّرات في العالم في العام ٢٠١٣، كما يؤكد أنها من بين أكثر ثلاث دول في العالم امتلاكاً لها، بالإضافة لأميركا والصين.
لم يأت تخلي إسرائيل مؤخراً عن صمتها باستخدام المسيّرات في مهماتها الاستخبارية والتجسسية والهجومية ضد الفلسطينيين بالصدفة. فبعد عقدين كاملين من الاستخدام الصامت للمسيّرات، في التجسس والاغتيال والقتل غير المشروع بحق الفلسطينيين، يأتي الترويج لهذا النوع من الطائرات الإسرائيلية الصنع اليوم، في ظل التطور الكبير في استخدامها والطلب عليها من قبل دول العالم، وزيادة مبيعات المسيّرات المصنعة صينياً وتركياً وايرانياً خلال السنوات الاخيرة. الا أن ذلك يستدعي لفت النظر لعدد من الملاحظات المهمة، أولها أن المسيّرات التي يستخدمها الاحتلال ضد الفلسطينيين، تأتي ضمن منظومة متكاملة الأبعاد تعمل بالتوازي والتكامل، ولن تعطي نفس النتيجة التي تتباهى بها إسرائيل في مناطق أخرى، إن عملت بشكل جزئي. فيختلط عمل تلك المسيّرات الاستخبارية والتي تقوم بجمع المعلومات، على مدار الساعة في فلسطين، كمهمة أساسية لإنجاح أي مهمة هجومية عند الحاجة. وتستخدم إسرائيل المسيّرات ضد الفلسطينيين سواء في جمع المعلومات، اذ يبقى هذا النوع من المسيّرات في سماء الفلسطينيين دون توقف، أو في مهاجمه أهداف محددة، كعمليات الاغتيال. كما تستخدم المسيّرات الانتحارية المتعددة الأشكال، والتي أقر الاحتلال باستخدامها مؤخراً في الضفة الغربية، والتي تستخدم في تتبع الأفراد والاغتيالات المركزة.
إن الوصول للفلسطينيين وتتبعهم واستهدافهم لا يتم فقط عبر المسيّرات، التي يروج الاحتلال لها اليوم ولإمكانياته بتطويرها، وإنما يقترن عملها أيضاً باستعانته بأدوات تجسسية أخرى، تنتشر داخل المدن والطرقات في الأراضي المحتلة، كالكاميرات المنتشرة في غالبية تلك الأراضي التي يسيطر الاحتلال عليها فعلياً، وتتبع الجولات ووسائل الاتصال والتواصل الأخرى، التي يتحكم بها الاحتلال بحكم الأمر الواقع. فالمسيّرات التي ستبيعها إسرائيل لأي بلد في العالم لن تحقق النتائج التي تحققها المسيّرات الإسرائيلية الصنع بأي حال من الأحوال، لأنه من المستحيل أن تمتلك أية دولة في العالم المعطيات المتوفرة للاحتلال في فلسطين.
يقودني ذلك إلى الملاحظة الأخيرة، وهي رسالة بينة للعالم بواقع حال الفلسطينيين، والذي يقر الاحتلال الإسرائيلي اليوم بممارسته ضدهم، فهذا الشعب الأعزل، الذي يقبع داخل أرض محاصرة، يسيطر الاحتلال على حدودها بإحكام، ويراقب التحركات داخلها بحرص مستدام، باستخدام آليات تجسس متعددة عالية الجودة، والتي تعد المسيّرات إحداها، ويصطاد أي تحرك مقاوم بسهولة، بآليات قمع عالية التقنية والدقة، يجعل الفلسطينيين في وضع مختلف عن أي شعب آخر يعاني، ويتطلب تحركاً دولياً حقيقياً لحماية هذا الشعب من إجرام احتلال فاق الحد.