منوعات

مسرحية: “صوت  من الماضي” تاليف رشا ابراهيم

مسرحية: “صوت  من الماضي”

تاليف رشا ابراهيم

الشخصيات:

  • الدكتور محمود: أستاذ جامعي في الستينات، مرهف الحس، مثقل بذكريات مؤلمة، لكنه يمتلك قدرًا كبيرًا من العاطفة المكبوتة.
  • ليلى: شابة في أوائل العشرينات، طالبة نجيبة، فضولية وذكية، تبحث عن الحقيقة خلف الكلمات.
  • صوت داخلي: يمثل ضمير الدكتور محمود وذكرياته.

 

الفصل الأول: صدى الوجع

 

المكان: مكتبة الدكتور محمود، أرففها تمتلئ بالكتب القديمة والمخطوطات. نافذة كبيرة تطل على حديقة جامعية هادئة، تتسرب منها أشعة شمس الأصيل. فوضى أنيقة تسيطر على المكان، كأن كل غرض يحمل قصة. الزمان: عصرٌ هادئ، تتخلله نسمات خريفية باردة.

(الدكتور محمود جالسٌ خلف مكتبه الخشبي العتيق، عيناه تحدقان في صورة قديمة بالأبيض والأسود، يمسكها بأصابع مرتعشة. يبدو شاردًا، كأنما يعيش في عالم آخر. تدق ليلى الباب بخفة، ثم تدخل بعد إذن مقتضب.)

ليلى: (بصوت رقيق) مساء الخير يا دكتور. أرجو ألا أكون قد أزعجتك. جئت أستوضح بعض النقاط بشأن بحثي حول “التأريخ العاطفي للحرب”.

الدكتور محمود: (يرفع رأسه ببطء، يعيد الصورة إلى مكانها بحذر شديد، صوته يحمل بحة خافتة) أهلاً بكِ يا ابنتي ليلى. لا إزعاج في رحاب العلم. “التأريخ العاطفي للحرب”… موضوعٌ شائك، ومؤلم. هل تجدين فيه ما تبحثين عنه؟

ليلى: (تقترب من المكتب، تلاحظ الشحوب في وجهه) أجد فيه الكثير من الأسئلة يا دكتور. كيف يمكن للمشاعر الإنسانية، كالحب والخوف والفقد، أن تشكل رواية التاريخ أكثر من الحقائق المجردة؟ وهل يعترف المؤرخون بهذا الجانب؟

الدكتور محمود: (يتنهد بعمق، يغمض عينيه للحظة) المؤرخون يا ليلى، يكتبون ما يرون وما يعلمون. لكن القلب، له سجلاته الخاصة، التي لا تُمسح بمرور الزمن. الحرب ليست فقط أرقامًا وخططًا عسكرية. إنها قصصٌ من الدموع والآهات، من الحب الذي انطفأ قبل أن يكتمل، ومن الأرواح التي تاهت في غياهب النسيان.

صوت داخلي: (همسٌ خافت، كأنه قادم من بعيد) …ومن الأماني التي دُفنت قبل أن تولد.

ليلى: (تجلس أمامه، يبدو عليها الفضول ممزوجًا بالتعاطف) يبدو أن هذا الموضوع يمسك شخصيًا يا دكتور. هل مررت بتجربة قاسية تتعلق بالحرب؟ أرجو المعذرة على فضولي.

الدكتور محمود: (يبتسم ابتسامة حزينة باهتة) لكل إنسان نصيبه من التجارب يا ليلى. بعضها يترك ندوبًا لا تلتئم أبدًا. لقد عاصرتُ حربًا، لم تكن مجرد حرب أسلحة، بل كانت حربًا على القلوب. (يتوقف لبرهة، يتأمل بعيدًا) كان لي صديق، بل توأم روح… فارسٌ شجاع، ورجلٌ نبيل. أحب فتاة، كانت هي ضوء حياته. وفي خضم المعارك، اختفى. اختفى وكأنه لم يكن. لم نجد له أثرًا، لا جثة، لا قبر. فقط… صمت.

صوت داخلي: (بصوت أوضح، كأنه صرخة مكتومة) …صمتٌ يمزق الروح.

ليلى: (تضع يدها على قلبها، متأثرة) يا له من قدر قاسٍ! وكيف عاشت الفتاة بعده؟

الدكتور محمود: (يهز رأسه ببطء) الفتاة… كانت مثل زهرة ذبلت قبل أوانها. لم تنتظر موته، بل ماتت هي من أجله. ماتت روحها، وظلت جسدًا يرفرف كطائر جريح. (يتوقف مرة أخرى، ويلمس الصورة على المكتب بأصابعه. تلمع عيناه بدموع مكبوتة.) هي… هي نفسها التي في هذه الصورة.

ليلى: (تنظر إلى الصورة، ثم إلى الدكتور محمود، يدرك عقلها جزءًا من الحقيقة المرة. بصوت خافت) هل… هل كنت أنت ذلك الصديق يا دكتور؟

الدكتور محمود: (تتغير ملامح وجهه، يظهر عليه ارتباك شديد، ثم يتنهد، كأنما يخرج الهواء من روحه) كنتُ… كنت أنا من شهد تلك المأساة. لم يكن توأم روحه فقط من فقد، بل كانت روحي أنا أيضًا قد كسرت في تلك الحرب. كنتُ أحبها يا ليلى. أحببتها بصمت، وأحبها هو بجهر. كنا ثلاثتنا كأضلاع مثلث، كسرته يد القدر.

صوت داخلي: (بصوت يرتعش) …مثلث الحب والفقدان، الذي لا تزال أضلاعه قائمة في الذاكرة.

ليلى: (تنهض من مكانها، تقف بجانبه، تضع يدها على كتفه بلطف) لم أكن أعلم يا دكتور. لم أكن أدرك أن وراء كل سطر في التاريخ، قصة إنسانية بهذا العمق.

الدكتور محمود: (ينظر إليها، تلمع عيناه بامتنان) والآن، يا ابنتي، هل أدركتِ لماذا “التأريخ العاطفي” هو الأصدق؟ لأن الحقائق وحدها لا تروي القصة كاملة. القصة الحقيقية تكتبها القلوب، وإن كانت تكتبها بالدم.

ليلى: (تنظر إلى الصورة، ثم إلى الكتب من حولها، ثم إلى الدكتور محمود، وكأنها ترى العالم بعينين جديدتين) أدركت يا دكتور. أدركت أن بعض الحروب لا تنتهي بانتهاء القتال. بعضها يستمر في قلوب من عاشوها.

الدكتور محمود: (يهز رأسه موافقًا، يمسك بيده صورة أخرى من الدرج، صورة لثلاثة شبان يضحكون، أحدهم يشبهه كثيراً، والآخر يشبه الصديق المختفي) نعم يا ليلى. تستمر. ويبقى همسها يتردد في أرواحنا.

(يسود صمت عميق في المكتبة، تتعالى فيه فقط أصوات الريح خارج النافذة، وصوت تنهيدات الدكتور محمود. ليلى تنظر إليه باحترام عميق، وقد فهمت الآن معنى آخر للتاريخ. تدرك أن بعض القصص لا تكتبها الأقلام، بل تكتبها القلوب المحطمة. يسدل الستار ببطء.)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى