سيل نبوءات خراب في إسرائيل
د. جمال زحالقة
ما زالت المظاهرات الصاخبة تهز أركان الدولة الصهيونية، ويتواصل انضمام الآلاف، من ضبّاط وجنود الاحتياط في وحدات نخبة الجيش الإسرائيلي، إلى حملة رفض الخدمة، ما يثير قلقا شديدا لدى القيادة العسكرية والسياسية والجمهور الواسع، من تبعات ما وصف بأنّه تسونامي ينذر باجتياح غالبية وحدات الاحتياط في سلاح الطيران والكوماندوز والقوّات البحرية والمخابرات والسايبر وغيرها. وأوضح أحد منظمي حملة رفض الخدمة، اللفتنانت كولونيل جاي روزين، وهو قائد سرب طيران قتالي سرّي بأن «الرفض هو سلاحنا الأخير.. نحن نلجأ إليه لأننا في مدخل خراب البيت الثالث.. وإذا مرّت القوانين فهذا خراب البيت ودمار الجيش وانهيار العلاقة بالولايات المتحدة».
روزين ليس وحيدا في هذا الكلام، فهناك سيل من نبوءات الخراب يعصف بإسرائيل، ويعكس حالة من الاضطراب والتشاؤم وخشية وريبة من المستقبل. كتب مفكّرون من الصفوة الإسرائيلية مقالات تحذّر من الهرولة نحو الدمار والخراب، وتضع علامات استفهام حول مصير الدولة الصهيونية، إذا واصلت الحكومة اتباع سياسات يمينية متطرّفة منفلتة، وأصبح مصطلح الخراب دارجا في تصريحات القيادات السياسية، ولغة الصحافيين، وشعارات المتظاهرين والغرافيتي على الجدران. ويطرح السؤال ما سبب هذا السيل؟ ما دوافعه؟ وما أهدافه، إن كانت له أهداف؟ وما تأثيره الفعلي على الواقع. ولا بدّ من الإشارة مسبقا إلى أن الحديث عن الخراب ليس الخراب الفعلي، وإسرائيل اليوم ليست مقبلة على التفكك والانهيار كما يروّج بعض العرب، فهي قد تكون تعبيرا عن قلق وجودي في ظل متغيّرات معيّنة، وقد تكون محاولات للضغط والتأثير.
خلفية تاريخية
التعبير الدارج في إسرائيل لوصف خطر انهيار الدولة هو «خراب البيت الثالث». ووفق الخطاب الصهيوني فإن الكيان الإسرائيلي هو «البيت الثالث» وسبقه «البيت الأول» الذي دمّره، كما جاء في التوراة، نبوخذ نصّر ملك بابل سنة 586 ق.م، و»البيت الثاني» الذي قضى عليه تيتوس ابن إمبراطور روما، سنة 70 ميلادية. وقد قامت الصهيونية، كعادتها بالترويج للأساطير، كأنّها حقائق تاريخية وبالعمل على سبغ مفاهيم قومية مصطنعة للتاريخ اليهودي. هذا لا ينفي بالطبع أن فكرة الخراب قابعة في الوعي الجماعي والفردي الصهيوني واليهودي عموما، وكل يأخذها بالاتجاه الذي يريد. ويحضر النقاش حول الخراب الأوّل والثاني في إسرائيل عبر صراع على المعنى، فاليمين يعتبر أن علّة الخراب هي «الكراهية المجانية» واليسار الصهيوني يحيلها إلى سيطرة المتطرّفين المتعصّبين وانفلاتهم. صحيح أن الأحداث التاريخية صمّاء وبنو البشر يمنحونها المعنى، ولعل المعنى الأهم هنا هو خراب البيت الأكبر في تاريخ فلسطين، كان عام 1948، حيث جرى تهجير غالبية أهل البلاد، في حين أنه في خراب البيت الأول والثاني جرى ترحيل أقلية صغيرة ليس أكثر، وتدل الأبحاث التاريخية الحديثة والرصينة على كذب الأسطورة الصهيونية. وقد كانت الصهيونية قد طرحت نفسها مشروعا لمنع الخراب ولتخليص الشعب اليهودي من المعاناة والعذابات والكوارث، وروّجت بأن لا بديل عن مسار «الخلاص الصهيوني» ولا مناص من بناء بيت خلاص لا يدخله خراب. لكن فكرة الخراب لم تختف ولم تغب، بل بقيت حاضرة وبقوّة في الوعي واللاوعي الإسرائيلي، ويشار إليها عادة بـ»الخطر الوجودي» الذي تدّعي الدولة الصهيونية العمل على منعه من خلال قوّتها العسكرية وشرعيتها الدولية والعربية. وفي بعض المواقف التاريخية المفصلية، يعود الحديث مجاهرة ومباشرة عن الخراب كخطر محدق، وحتى كإمكانية واردة، ولو أن الصهيونية تعتبر الحديث عن إمكانية «خراب البيت» مجددا نوعا من «الكفر» إلّا أنه طفى على السطح عدّة مرّات في ظل أزمات شديدة واجهت الدولة الصهيونية. فعندما كانت القيادة الإسرائيلية في مأزق صعب جدّا بعد اندلاع حرب أكتوبر عام 1973، قرر الجنرال موشيه ديّان، وزير الدفاع الإسرائيلي حينها، توجيه كلمة متلفزة الى الشعب، ينذر فيها بخراب «البيت الثالث» لكن غولدا مئير رئيسة الوزراء، منعته من ذلك. ديّان لم يكن وحيدا في رأيه، فقد عبّر عدد هائل من الكتاب عن خشيتهم من «الخراب» في ظل الحرب والعبور.
وفي عام 1977، وبعد فوز الليكود في الانتخابات، دخل اليسار الصهيوني في أزمة وجودية وتناثرت نبوءات بقرب الخراب، بسبب التمزّق الداخلي للمجتمع الإسرائيلي. وبعد أن شكّل مناحيم بيغن رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، حكومته بمشاركة الجنرال يغئال يدين، زعيم حزب الوسط «داش» كتب الأديب والكاتب الصحافي عموس كينان مقالا خلص فيه إلى أنّه «في المستقبل سيكتشف عالم الآثار، الذي سينقّب في مخلفات دمار الدولة العبرية، غليونا بين الأنقاض». وكان الغليون لا يفارق فم يدين، واعتبرا رمزا له. وطفت فكرة الخراب، مرّة أخرى على السطح عام 2015، بعد الاتفاق النووي مع إيران. وبث بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي، أن إسرائيل تواجه خطرا وجوديا بسبب النووي الإيراني، وأنّها لوحدها لكنّها ستعارك حتى النهاية، لمنع وقوع كارثة محدقة بالشعب اليهودي. وتستحوذ فكرة «الكارثة» أو الخراب على نتنياهو، الذي يعتقد ويؤمن (ومعه من حوله) بأن العناية الإلهية قد انتقته لينقذ الشعب اليهودي من خطر الدمار الشامل نتيجة لحصول إيران على سلاح نووي، وهنا نجد أن الوعي بفكرة الخراب حاضر كخطر فعلي وليس كقلق وجودي فقط.
نبوءات الخراب
ما لفت الانتباه نهاية الأسبوع المنصرم هو مقال لأشهر مفكّر إسرائيلي في العالم، بروفيسور يوفال نوح هراري، الذي ترجمت كتبه الى أكثر من مئة لغة، بما فيها العربية، وبيعت كتبه بمئات الملايين من النسخ. هراري هو أستاذ التاريخ في الجامعة العبرية في القدس، وقد كتب عن تاريخ البشرية، وتميّز بكتابات خاصة بتاريخ المستقبل، وجاء في مقاله، الذي نشرته «هآرتس» يوم الجمعة الفائت: «من المهم أن نفهم جميعا، أن ما يجري حاليا، ليس صراعا سياسيا عابرا، بل حدث تاريخ مؤسّس، سوف يلقى ظلاله على التاريخ اليهودي في الأجيال القادمة». وجاء فيه أيضا: «الكوارث التاريخية الكبرى تحدث أحيانا نتيجة لمطامح شخصية صغيرة». ويكتب هراري في مقاله عن شكل الخراب المتوقّع: «إذا كان خراب البيت الثالث سيكون مثل خراب البيت الثاني، فمهما كان الأمر فظيعا يمكن أن نأمل ببقاء اليهودية.. فهي قد واجهت على مدى ألفي عام خرابات سياسية واقتصادية.. واستطاعت أن تنهض وتتعافى» ثم يتساءل: «وماذا إذا كان الخراب مختلفا هذه المرة؟ وماذا لو أقام المتعصّبون دولة مسيانية تقضي على الديمقراطية وتلاحق العرب والعلمانيين والنساء؟ دولة عنصرية وعنيفة، تستطيع بحماية السلاح النووي وصناعة السايبر أن تمنع، ولو لوقت ما، الخراب الاقتصادي والسياسي؟ عندها على اليهودية أن تواجه خرابا غير مسبوق هو الخراب الروحاني». ويتنبّأ هراري بأن تحصل هجرة جماعية للعلمانيين من إسرائيل، وأن تبتعد الجاليات اليهودية في العالم عن الدولة الصهيونية الدينية المسيانية. وقال هراري في موضع آخر: «دولة إسرائيل التي نعرفها، ماتت». ولم يكتف بطرح السؤال حول مصير الدولة، بل أضاف متسائلا ومتشائما: «هل تستطيع اليهودية أن تصمد في وجه خراب روحاني من هذا النوع؟». وبنبرة لا تقل حدّة نشرت البروفيسورة أنيتا شابيرا، أهم مؤرّخي إسرائيل والصهيونية، مقالا في مجلة «ليبرتيز» وصحيفة «هآرتس» كتبت فيه: «مر 75 عاما على إقامة إسرائيل.. وهي من أنجح الدول في العالم، لكن في نصف السنة الأخيرة، تقوم حكومة إسرائيل بهدم إنجازات الدولة، وبتقويض الاقتصاد وطرد المستثمرين الأجانب وتتسبب في انخفاض قيمة الشيكل وفي فقدان ثقة المؤسسات المالية العالمية، وتخلق صدعا عميقا غير مسبوق في المجتمع». وأضافت: «هناك أمر ما سحري في الرقم 75 المملكتان اليهوديتان المستقلتان، التي نشأتا في أرض إسرائيل، تواجدتا عدد السنين نفسها تقريبا». وما لا تقوله شابيرا وغيرها، هو حضور النبوءة الواردة في سفر دانيال: «على جناح الأرجاس مخرّب» في الوعي الإسرائيلي على شكل أن الأرجاس هي الحياد عن الخط المركزي للصهيونية، ما سيؤدّي الى التخريب والدمار. وتورد شابيرا في مقالها لقاء مع البروفيسور الفلسطيني رشيد الخالدي في عشاء في نادي المحاضرين في جامعة كولومبيا، حيث قال لها: «أنتم مثل الصليبيين، سوف ترحلون عن فلسطين. المسألة مسألة وقت فقط». وبعد أن ترفض ما قاله، تعود وتطرح أسئلة وجودية حول المصير: ما هو التهديد على دولة اليهود؟ هل صحيح أنّها حكومة خراب البيت الثالث؟ هل سنتعلّم من الماضي؟ هل استخلصنا العبر من تاريخنا؟ أم سنندم ونبكي إننا «بسبب ذنوبنا هجّرنا من بلادنا»؟
لقد تغلغلت مقولة الخراب إلى مركز الخطاب والنقاش في إسرائيل. ولا يمكن الاستهانة بهذه الظاهرة، لكن من الخطأ أيضا التهويل، وكأن إسرائيل على حافة التفكك والانهيار. فمعظم نبوءات الخراب تنطلق من أن السياسات القائمة سوف تستمر بخط مستقيم، وهي مرشّحة للانفلات وللمزيد من التصعيد والتطرّف. هذا ليس بالضرورة هو الذي سيحدث، إذ أن نتنياهو يعي تماما الأضرار الاقتصادية والأمنية والسياسية، ولن يرمي نفسه في التهلكة. هو سيفعل ما يرضي حلفاءه في الائتلاف، لكن إلى حد عدم التسبب في انهيار قوات الاحتياط وتدهور الاقتصاد وتخريب العلاقة بالولايات المتحدة. ومع ذلك يبقى لنبوءات الخراب فعلها في التأثير في الثقافة السياسي وفي الوعي واللاوعي الجمعي للمجتمع الإسرائيلي. وليس مستبعدا أن تلجأ القيادة الأمنية والسياسية في إسرائيل الى القيام باستعراض عضلات عسكري لطمأنة الخائفين على المصير، بأن القوّة العسكرية كفيلة بالمحافظة على الوجود تحت أي ظرف.